بقلم سحر مندور
تصوير: عمر شاع
الشخصية المصورة: أفروديت نيكول سميث
تلبيس و تنسيق: فادي زعمط
مكياج: غدير بندك
تصفيف شعر: هبة صالون فرانك بروفوست – عمان
اخراج: خالد عبد الهادي
شكر خاص لعلاء ابو قشة في مساعدته لنا خلال فترة التصوير
مراجع التصوير، الاستنادات و هيكل العدد هنا
هذا الملف بالشراكة بين ماي كالي وموقع جيم – Jeem.me
عند الثالثة من فجر ذاك اليوم، وبهدوءٍ نشتهيه لمن نحبّ، فارقت الروح صباح. في إعلان الخبر، قيل إنها تركت وصيّةً للناس، أوصتنا أن نغني وندبك في رحيلها كما فعلنا في حياتها. نُقل عنها قولها: “بدي ياه يوم فرح مش يوم حزن”. فتسمّرت الدموع وانفرجت الشفاه في ابتسامةٍ تستدعي ترسّخ صباح وخفّتها معاً.
إن بلوغ الإبتسام في وداع مَن أحببنا يحمل إجابةً طريّةً ونادرة لسؤال الموت المقلق. وصباح، على امتداد جسمها وعمرها وبلادنا، أتقنت تقديم الإجابات النادرة لأسباب القلق.
كالمياه، تفجّرت صباح من صخر القرية الصلفة البعيدة الكائنة في أقصى جبال لبنان، وشقّت طريقها بزخمٍ إلى صلب القاهرة، عاصمة الضوء والفنّ والثقافة في أربعينيات القرن الماضي، وهي ابنه 16 عاماً. بسلاسةٍ وانسياب وبديهية، أصبحت نجمة في زمنٍ فاض بنجوم القيمة الإستثنائية. مع العمر، استقرت في صلب الصورة، وملأت الدنيا بخصل شعرها، ضحكها ملء الفم، وحديثها العذب. قاربت الحياة بوديّة وفرح، وفي وديّتها هذه كمن سرّ.
صباح هي امرأةٌ تمكّنت صراحةً وببراعةٍ من أن تفرض على العقل الأخلاقيّ العربي حياتها، ومن دون أن تتصادم معه. حياتها هذه تضمّنت الكثير من الجسد، الجنس، والضحك. نادراً ما تُعتبر امرأةٌ أيقونةً في هذه المنطقة وهي ترفع ثالوث “الدنس” هذا. لكن صباح فعلتها. كأنها أتقنت المجتمع، أتقنت المزاج العام للذكورية الحاكمة، وأتقنت شقّ طريقها عبره، وعلى أكتافه أحياناً. كما أنها أتقنت نفسها. نظرت إلى هواها، لم تصارعه، وإنما سلكت الطرق إليه.
الزواج كأداة تفاوض
بنت صباح معادلةً دقيقة جداً بين الحريّة والتفاوض لأجلها. اقترحت نفسها على مجتمعها من دون أن تستفز عنفه. لم تسخر من السلطات الجندريّة العربية التي تعرّف النساء، ولا تجاهلت سطوتها، ولا دخلت في صراعٍ من أجل التغيير. لم تكن مناضلة بالمعنى الفعلي لكنّها قدّمت للنضال يد العون عبر أسلوب الحياة والمثال الذي أرسته. هي فعلياً لاعبت هذه السلطات ومريديها. لامست الحدود، ثم دفعتها قليلاً إلى الأمام، وأكثر، فضحكة تخفّف من وطأة القطع مع السائد المعتاد. ثم تأتيهم بعاطفةٍ وطنيةٍ جامعةٍ كرقصة دبكة تلمّ الشمل حولها، ثم يحلّ زواج فيصبح هو القصة. وهكذا دواليك. قصة حياةٍ في عرضٍ مستمر وفي عرض البحر. لقد أتقنت التفاوض. وقصص الزواج تدلّ على ذلك.
هوجمت صباح لكثرة زواجاتها، مع أن مؤسسة الزواج هي الطفلة المدلّلة للسلطات الأخلاقية والجندرية. الهجوم استهجن الكثرة، لكنه فعلياً استهدف تعريفها للزواج كموقع لذّة لا كـ”سُنّة الحياة”. لم تتزوج من باب الإنتماء إلى السيرة المتوقعة إجتماعياً لجهة “الإستقرار” وتأسيس أسرة. ولا تزوجت من باب رسم حدود الشهرة والإستقلالية، تبرئة السلوك وإشهار الخضوع للمنظومة. في مرحلة، هي استخدمت الزواج لتمتلك حقّها بالرغبة المدانة أخلاقياً. وفي مرحلة أخرى، استخدمته لتسلّي وحدتها.
كانت سلسلة أسئلة الزواج في المقابلات تبدأ من: “لماذا تزوجتِ فلان؟”. تجيب عليه إجابةً لعوبة اشتهرت عنها: “استحليته!”. ثم تُسأل عن سبب الكثرة في الزواج، فتجيب: “بدكن صاحبهم بلا زواج؟ بيزعلوا مني الناس!”. وكان ناسُ زمنها يتناقلون أقوالها هذه بقبول ومرح. وبذلك، حجزت لممارساتٍ مغايرة مساحةً ودّية في الثقافة الشعبية. الزواج هو عادةً المَخرَج من الفضائح، يُفيد بأن الجنس تمّ بموافقة الدين والدولة والمجتمع. صباح استعملت هذه الموافقة الثلاثية أكثر مما خضعت لها.
بقيت صباح تفاوض على حريتها تحت الأضواء منذ وعت على الدنيا، فأوجد النظام البطريركي قصاصها على ذلك في ختام القصة.
مع الوقت، امتلك النظام البطريركي أسلحةً يتصدّى بها لمثال صباح المربك هذا. لم يغلبها كامرأةٍ شهيرة امتلكت رغبتها وحكت بها، فانتظرها عند مفترق العمر. عدّاد السنين انطلق منذ بلوغها سنّ الخمسين ربما، وراح يلاحقها لينال من هذه الصورة: متصابية، نافرة، شرهة، وصولاً إلى مجنونة. عن وعي أو عن عادة، أُريدَ لهذه الأيقونة ألا تسود.
لمّا قالوا إنها “جنّت” كونها تزوجت شاباً يصغرها سناً، أجابت مستخدمةً أغنية: “قالوا عني مجنونة، قدّ ما بحبك يا عيوني”. ولمّا كبرت أكثر وكرّرت الزواج من الأصغر، صاروا أكثر وقاحة و”واجهوها” بإمكانية أن يكون العريس الشاب “عم يستغلّ الصبوحة”. لكن الصبوحة صوّبت السؤال: لماذا لا أكون أنا من يستغلهم؟ وتحدثّت متسلحةً بالنكتة عن إنها لا تريد رجلاً كبير السن في بيتها، يمرض ويسعل ويطلب ويأمر، وإنما تريد شاباً يملأ البيت حيويةً تستعين هي به لو احتاجت. قلبت الآية وقدّمت قراءةً أخرى للمنطق السائد الذي يقول بأن الرجل يحتاج امرأةً تهتم به في آخرته. الكلّ يحتاج اهتماماً شبيهاً، وصباح أرادته حيوياً، فيه فرح.
السنّ كأداة انتقام
مع المزيد من الوقت، أثقلوا الكلام عن السنّ والتقدّم به، انتقدوا صوتها، ضحكها، لبسها، شعرها، وحتى خروجها من المنزل وهي “في هذه السن”. فكانت تبتسم وتردّ باللين حيناً وبالعتب أحياناً.
غريبٌ هذا التفكير الانتقاميّ السائد ضد فرح النساء، كأن الشيب ليس القاعدة وإنما هو قصاص الفرِحات فقط.
وهي لم تعتكف لما تقدّمت في السن، وظلت في الصورة حتى أُنهِكت تماماً. وبدلاً من احتضانها كقيمة حب لنا طالما هي معنا، هناك من طلب منها بعد عمرٍ قضته تحت الضوء أن “تقعد ببيتها”. أن تموت اجتماعياً قبل بيولوجياً. أن تقطع علاقتها بذاتها، وأن تمتثل لوضعية السنّ.
بقيت صباح تفاوض على حريتها تحت الأضواء منذ وعت على الدنيا، فأوجد النظام البطريركي قصاصها على ذلك في ختام القصة. مثل كلّ هذه الأفلام السينمائية التي تروي عن أناس أحرارٍ انتهوا تائبين مفلسين مشرّدين، أكانوا نساء أو مثليين، أرادت السلطات الأخلاقية استخدام الختام، الشيخوخة، لتلقين صباح وجمهورها الواسع درساً في تبعات الحريّة. حاكموا شيخوختها لا بصفتها الشحرورة الصبّوحة، وإنما كامرأة لهم ضلّت طريقها فوجب وضعها في موقعها على الكنبة، تحمل ذكريات العائلة بيد والطنجرة ذات المذاق الأصيل في الأخرى. وتمنّعها عن ذلك أتاح للسلطات الإجتماعية الأخلاقية أن تروّج للشيخوخة غير التقليدية كإدانة حتميّة لسلوك العمر. حياة “كهذه” تنتهي إلى شيخوخة “كهذه”.
لكن، بشيخوختها كما ببقية مراحل عمرها، واجهتهم صباح بسعة صدر مهيبة وضحكة مستمرة لا تخفي الجرح وخيبة الأمل، متسائلةً: “ليه؟ شو بدهن مني؟ مش هيك أحلى؟ الصبّوحة بتحب الفرح!”.
وفي يوم دفنها، أتاها الجواب من الآلاف الذين يحبونها، يشبهونها ويعتزّون بمثالها في لبنان. استيقظ البلد على شوارع القرى والمدن وبيروت تتزيّن بصورها بينما مكبرات الصوت تملأ فضاء الصوت بأغانيها. الناس، فرادى ومجموعات، خرجوا لوداعها. ضبّوا في درجٍ التعاليم والمفاهيم والعادات المرافقة لطقسٍ من أشدّ الطقوس محافظة وهو طقس الموت. حملوا حزن الفراق مع الدفّ والطبل والزهور، ونزلوا بالوصيّة إلى شارع العلن، العلن الأشدّ كالذي أحبّته صباح، رفعوا نعشها عالياً في الشارع والكنيسة، رقصوا تحته، غنّوا، دبكوا، وثبّتوا باللحم الحيّ وبملء الحنجرة إرثها الإستثنائيّ على هذه الأرض.
إن لصباح مطرحٌ حميم، ثابتٌ ومعتدّ بنفسه في صياغة هذا البلد، وفي صياغـتنا كلبنانيّات تحديداً.
مهما سعى العقل الأخلاقي العربي إلى قمع صورتها، ترى الصورة تقفز بكامل الفرح من القلب إلى العين لمجرد ذكر إسمها.
ليس من السهل أبداً تفادي صباح. فهي واحدة منا، واحدةٌ من أحلانا، ونحن كثرة.