بقلم ليلي ب.
تحرير موسى الشديدي
تدقيق لغوي: يزن مخامرة
تصوير: عمر شاع
الشخصية المصورة: أفروديت نيكول سميث
تلبيس و تنسيق: فادي زعمط
مكياج: غدير بندك
تصفيف شعر: هبة صالون فرانك بروفوست – عمان
اخراج: خالد عبد الهادي
شكر خاص لعلاء ابو قشة في مساعدته لنا خلال فترة التصوير
هذا الملف بالشراكة بين ماي كالي وموقع جيم – Jeem.me
ولدت جانيت فغالي في 10 من تشرين الثاني سنة 1927 لعائلة مسيحية من لبنان، ونشأت كفتاة ضيعة طموحة. عرفت في أول فيلم لها (القلب له واحد) بعد أن تبنتها فنياً المنتجة آسيا داغر وقدمتها للجمهور بدور “صباح” الذي أصبح اسم الشهرة الخاص بها فيما بعد، كما وعرفت أيضاً باسم “الشحرورة” تيمناً بمكان نشأتها؛ وادي شحرور. كانت فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي هي الفترة الذهبية لصباح من ناحية غزارة العطاء الفني السينمائي، تحديداً من خلال الأفلام المصرية في عصر الرئيس جمال عبد الناصر أثناء موجة القومية العربية في تلك الفترة.
لم تنخرط الشحرورة في السياسة آنذاك علماً بأنها كانت شاهدة عيان على فترة مفصلية للهوية العربية، إلا أن للاستعمار كان تأثيراً واضحاً على حياتها الشخصية والفنية، حيث يجدر الذكر هنا أن فترة ازدهار الشحرورة فنياً كانت في الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وبدء الحرب الباردة، حين تراجع واختفى الحكم العثماني في المنطقة، وقدوم الاهتمام الغربي الأبيض بالعالم العربي.
ما بعد الاستعمار…
تزامن ظهور صباح للجمهور العربي كفنانة لبنانية مع فترة استقلال لبنان من الاستعمار الفرنسي بشكل خاص، والبريطاني للوطن العربي بشكل عام. لكن ما لم يدركه الجمهور العربي أو حتى صباح آنذاك هو صعوبة التخلص من الأذى الفكري والمجتمعي والثقافي الذي سببه الاستعمار للهوية العربية؛ محدداً بذلك أطر ماهية الفنانة الناجحة لصباح. ناظرين أيضاً لأبعاد الاستعمار كافة، من تحكم بالجسد وتحديد المصير، إلى تعريف وقولبة الهوية العربية نسبة للمفاهيم الغربية الاستعمارية. وهنا ننظر على مدى ما يقارب 70 عاماً كيف تعاطى الجمهور والنقاد مع هوية الشحرورة محاولاً قولبتها مع المعايير الغربية لما هو “جميل” و “مقبول”، فنستذكر هنا على سبيل المثال، أحد أفلام الشحرورة بعنوان “الرجل الثاني” الذي تم إنتاجه في أواخر عام 1959 في مصر، حيث تظهر صباح في إحدى مشاهد الفيلم بشخصية “لمياء” وهي تتجادل مع “سمرة” التي تقوم بلعب دورها الممثلة (سامية جمال).
تقارن سمرة في المشهد، نفسها بلمياء من حيث لون البشرة، و تقول بأن السواح – الأمريكان تحديداً- يفضلون اللون الخمري – وتعني هنا الفتاة السمراء، بينما الشقراء -مثل لمياء- ليس لها أي تأثير عليهم، وإنما على السواح “الهنود” فقط، وهنا تقوم لمياء (صباح) بالرد عليها قائلة بأن لا أحد يفضل -البلح- على التفاح الأمريكي الذي يمتاز أيضا بالسعر المرتفع مقارنةً بالبلح.
من خلال هذا المشهد تحديداً، نستعرض عدة أفكار إشكالية على عدة أصعدة:
أولاً: تشيئ المرأة سواء كانت السمراء أو الشقراء. حيث أن أحداث المشهد تقوم على التسويق للكباريه من خلال أجساد النساء، و هذا بحد ذاته مشكلة تستدعي النقاش المطول؛ فالفيلم يرسخ فكرة تشيئ المرأة والتعامل معها كجسد أو أداة جنسية بحتة لإشباع احتياجات ورغبات الرجال البيض تحديداً كما ذكر في الفيلم، داعياً المشاهد لأن يقَيّم المرأة وفق معايير ذكورية واستعمارية بحتة.
ثانياً: غرس كره النساء الداخلي في النساء أنفسهن. حيث تتجادل سمرة مع لمياء حول من تكون الأجمل والأكثر إثارة، و يتنافسن أيضاً لإرضاء الرجال من حولهن مما يؤدي إلى صراع بينهن لنيل وكسب رضى الرجل، حيث تتمحور أهداف وحياة هاتين الشخصيتين حول هذا المفهوم الذكوري، علماً بأن سمرة في جدالها مع لمياء، قد ذكرت أن الشقراء مثل شخصية لمياء، تلفت انتباه الرجال الهنود فقط؛ وهذه الجملة بحد ذاتها تحمل في طياتها معانٍ عنصرية كبيرة تجاه الهنود أو ذوي لون البشرة السمراء، حيث تدعي هذه الجملة بأن الرجال أو الأشخاص ذوو البشرة السمراء كلهم\هن ينجذبون فقط لذوي/ات البشرة بيضاء. لاغيةً بذلك أي نوع من الشمولية للآراء المختلفة للأعراق غير البيضاء، وهذا دليل واضح على أثر الاستعمار على الفكر العربي (و في إخراج الأفلام و كتابة السيناريوهات) من جهة، وعلى تقاطعية الصراعات الفكرية والثقافية والسياسية والعرقية والجنسانية من جهة أخرى.
ثالثاً: تصوير المرأة العربية الملامح أو ذات البشرة سمراء اللون على أنها أقل جمالاً وأدنى مرتبة من تلك الشقراء. مجرد طرح فكرة المقارنة والخطاب التنافسي بين الشخصيتين يخلق صراع بينهما، إذ تطرح هكذا مقارنة سؤال؛ ما هي الأسباب التي تدفعنا للمقارنة أساساً؟
عقدة الخواجة
من أعطى الحق للرجل للمقارنة والتحكم بأجساد النساء، ويعرّف كل منهن بالجميلة والمرغوبة وغير الجميلة والمرغوبة؟
هذه المقارنة نابعة من عقدة الخواجة المتغلغلة في الثقافة العربية منذ أيام الاستعمار الأولى وصولاً إلى يومنا هذا، حيث يسعى الفكر العربي عموماً إلى إرضاء الغرب المهيمن فكرياً وثقافياً، كما ويتوق للتشبه بالصورة النمطية الغربية سواء ثقافياً أو سياسياً أو حتى جسدياً. ويتضح الأمر أكثر عندما نمعن النظر في تأثير عقدة الخواجة على مسيرة الشحرورة الفنية، فمنذ بداياتها الفنية وقد تبنت الشحرورة صورة المرأة الأقرب للمرأة الغربية نوعاً ما.
ساهمت ثقافة ما بعد الاستعمار في غرس معايير الجمال “الغربية” في أراء الجماهير والنقاد، مما زاد الضغط غير المباشر على صباح حتى تنصاع لتلك المعايير خلال مسيرتها الفنية. و من أبرز الأمثلة التي تثبت ذلك هو ما كتبته لميا زيادة في كتابها “يا ليل يا عين”1 عن صباح، فذكرت: “كانت تبدو كإحدى الممثلات الأمريكيات، جانيت ماكدونالد مثلاً. نعم، هي بالفعل تشبه جانيت ماكدونالد جداً، مع تطابق الاسمين بشكل غريب، لكن التشابه بينهما ليس محصوراً بذلك وحسب، فجانيت فغالي تتمتع أيضاً بصوت مميز….”، ويمكنني القول هنا بأن لميا زيادة على حق فعلاً؛ فأوجه الشبه من منظور زيادة لم تقتصر فقط على المظهر العام لصباح وجانيت ماكدونالد فحسب، وإنما بالخلفية الدينية لكلا الامرأتين أيضاً، فجانيت ماكدونالد تأتي من ولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية وهنا تبدأ لميا بمقارنتها المبنية على المفاهيم التي سبق وأن شوهها الاستعمار للفكر العربي، فمدحت صباح لجمالها وبياض بشرتها، ونوهت لانحدارها من عائلة لبنانية مسيحية. وهذا الأمر نابع من الفكر الناتج عن الاستعمار في المنطقة؛ بأن من هم من خلفية دينية مسيحية هم أقرب أيديولوجياً وسياسياً وعرقياً للغرب الذي كان قديماً مسيحي بالمجمل، وينظر للعرب و الإسلام بتعالي على أنهم في مرتبة أقل.
لو أخذنا هذا الجانب أيضاً لنشبه سمرة بأنها تمثل الهوية العربية لما لها من ملامح، و أن لمياء ببشرتها البيضاء وشعرها الأشقر تمثل الغرب بحسب سياق الفيلم، كنا لاحظنا أن لمياء (الغرب) طُلب منها من قبل عصمت أن تقوم بمساعدة سمرة (العرب) في استقطاب الزبائن في الكباريه، وكأن سمرة عاجزة عن فعل ذلك بنفسها. وهنا يطرح السؤال؛ كيف كانت ستكون الشحرورة لو لم تُفرض عليها البنية المجتمعية الساعية للتشبه بالهوية الغربية والتقرب منها؟ كيف كانت ستكون الشحرورة لولا عقدة الخواجة السائدة في العالم العربي في الفترة ما بعد الاستعمار؟
يجدر بي أن أذكر أن الشحرورة ليست إلا ضحية ثقافة ما بعد الاستعمار، مما يسلط الضوء على أن زمن الشحرورة كان مرحلة بداية التعافي من الاستعمار في المنطقة وإعادة بناء الهوية العربية للمرحلة ما بعد الاستعمار منذ ذلك الحين، وحتى بعد نشر المفكر إدوارد سعيد كتابه “الاستشراق” سنة 1978، فاتحاً بذلك آفاقاً جديدة للفكر النقدي للاستعمار الغربي وتحليل الهوية العربية المعاصرة التي ما زلنا ولغاية يومنا هذا نتعارك من أجلها مع البنية المجتمعية الأبوية القامعة للمرأة وجسدها التي خلفته لنا الكولونيالية.
صدقت الشحرورة حين قالت لشادي معلوف بأنها ستشغل بال الناس حتى بعد مماتها، فتتضح صحة كلامها بأنه حتى بعد مماتها تقوم لميا زيادة بتفسير شهرة وجمال صباح ونسبه لنظيرتها جانيت الأمريكية، مؤكدة بذلك حقيقة عقدة الخواجة التي وقعت صباح ضحيتها طوال سنوات حياتها ومسيرتها الفنية.