بقلم موسى الشديدي
الفنان: يزن ست أبوها
تصوير: سليم سلامه
الشخصية في الصورة: لمياء صوافطة
في 2012 قررت الخروج من الخزانة والإفصاح عن هويتي الجنسية لوالدتي، كان ذلك الصوت المزعج في رأسي يحاول سحلي خارج الخزانة، كنت أشعر بإختناق داخلها، دخلت عليها قائلا:
“أريد أكَلچ سر، أني ما أحب البنات أني أحب الولد” لترد علي ببرود “شنو الجديد، أني أعرُف”
هل هذا يعني الخزانة في رأسي فقط لا في الواقع؟ وهل هذا يعني أن الخزانة لم تكن في الحقيقة مفهوماً عالمياً؟ أو أن نموذج الخروج منها ليس لجميع المثليين في كل مكان كما كنت أعتقد حينها؟
هل الإفصاح عن الهوية الجنسية مفهوم غربي؟
في نقاش دار بيني وبين نشطاء عرب حول مفهوم الخروج من الخزانة وضح خالد (ناشط أردني فلسطيني) أن المشاركة والتشارك حاجة إنسانية من وجهة نظره “أعتقد أن الخروج من الخزانة كمشاركة لهوية الشخص الجنسية مع المحيطين به عائلته/أصحابه، كمان حاجة إنسانية مش مرتبطة بغرب أو شرق” وبأن البشر بطبيعتهم يحبون الحديث عن أنفسهم، لترد عليه ناشطة (محلية) كانت تشاركنا ذلك النقاش “بس أنا بشوف أنو الخروج من الخزانة بنية غربية” بسبب تمحورها حول هوية الأنا الفردية الموجودة في الغرب بينما لا تتمحور حول هوية الجماعة (نحن) الموجودة عندنا كعرب، وبأن الخروج من الخزانة يطلب من الفرد أن يحتفل بهويته الفردية على حساب الجماعية وإجبار الجماعة على تقبل هويته المختلفة وتقول “مرة شخص أبيض حكالي ليش ما تحكي لأهلك إنك مثلية إذا بيحبوكي رح يتقبلوكي، بينما أنا بالنسبة إلي العكس صحيح إذا أنا بحبهم ما بجبرهم يتقبلون شي ما بدهم إياه”.
في الوقت ذاته يتساءل بعض الأشخاص كيف يمكن أن يكون تجسيد الشخص لذاته الحقيقية غربياً؟ معترضين على من يدعي أن الخزانة غربية المنشئ، لكن هل فعلاً الخروج من الخزانة يمثل تجسيداً للذات الحقيقية لجميع الأشخاص غير معياري الجنسانية حول العالم؟
يرى مجموعة أخرى من ناشطي الحراك المثلي العربي أن الخروج من الخزانة بحد ذاته ليس غربياً لكن عندما يصبح إلزامياً على الفرد المثلي يكون بتمثيله الغربي، وكأنها مأخوذة من مفهوم الإعتراف الشائع في المجتمعات الغربية “لازم تعترف بحقيقتك” ذلك الطقس الذي يتوجب على الخاطئ البوح بشهواته الأكثر حميمية والتي أكد أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه تاريخ الجنسانية: إرادة العرافان، أنه مفهوم غربي الأصل غير موجود في الثقافات الأخرى لعدم الحاجة له.
أجريت خلال كتابة هذه المقالة مقابلات متعددة مع أفراد من مجتمع الميم العربي، عدد كبير منهم لم يفهم معنى عبارة الخروج من الخزانة Coming out of the closet حتى أو السماع بها من قبل، تعريف جمعية أصوات نساء فلسطينيات مثليات للمصطلح كجزء من قاموس المصطلحات الأساسية في الهوية الجنسية الخاص بهن كالتالي:
“هي وصف وضعي للسيرورة التي من خلالها تتبلور هوية الشخص الجنسية حتى الوصول إلى مرحلة قبول الذات بهويتها الجنسية، وإشهار الهوية الجنسية أمام العائلة، الأصدقاء وأحياناً أمام المجتمع كله. يكون الإشهار عن الذات، في حالات عدة، جزئياً، يحدد الفرد فيه دوائر الأشخاص الذين يريد أن يشهر نفسه أمامهم.”
الخزانة الأممية
هنالك حدث ولد في الولايات المتحدة يتخذ من اليوم الحادي عشر في شهر أكتوبر موعداً يطلقون عليه اليوم العالمي للخروج من الخزانة National Coming Out Day كمحاولة لقولبة المجتمعات المثلية حول العالم وقيمها ومطالبها بذات الهيئة بهذا الحدث الغير حساس ثقافياً، فإطلاق عبارة “يوم عالمي” على مبادرة غربية حتى لو لم يكن مفهوم الخزانة بحد ذاته غربياً تماماً يضعها كجزء من تعميم التجارب الغربية كالوحيدة الصحيحة والتغاضي عن إختيارات المجتمعات المثلية في أنحاء العالم المختلفة وخصوصيتها وسياقها المحلي وحقها في تقرير أدوات ووسائل النضال الخاصة بها.
ما يخلق ثنائية بين الخارج من الخزانة والمحتجز بها ووضع مسؤولية البقاء في الخزانة على المحتجز فيها نفسه/ها، بمعنى إن هذا الحدث يتمحور حول لوم الضحية لا الجلاد، ويصبح عدم الخروج من الخزانة تهمة موجهة ضد المحتجز، وهذا ما يجعل ذلك الخروج إلزامياً.
مع ذلك يمكن النظر إلى الخروج من الخزانة كمفهوم غربي ككثير من المفاهيم الموجودة في ثقافتنا – فالثقافات تتداخل وتغير ببعضها البعض على الدوام- والتي لا يمكن الإستغناء عنها فقط لأنها غربية كحقوق الإنسان، فلما التخلي عن الخروج من الخزانة بالذات، إن كان يلبي حاجة جوهرية في حياة الفرد المثلي العربي.
يفترض نموذج الخزانة ان الفرد المثلي في الغالب يشعر بالعار والعزلة ويواجه إفتراضات سيئة حول جنسانيته/ها، وما ستؤول اليه من زواج وطرح الفكرة في سن معين عليه/ها والسؤال عن السبب إن جاء الجواب بالنفي، حينها يصبح الخروج من الخزانة هو جواب السؤال وهنا تكمن الحاجة له.
أحد أصدقائي المثليين ينزل من بيته ومعه كيس أكتشف بعد أن يجلس بجانبي في السيارة بأن ما في الكيس ثياب أقل إحتشاماً ورجولة – بحسب مقاييس عائلته – ألتي لو لبسها أمام أهله ستثير الشكوك حول هويته الجنسية، يخرجها من الكيس ويبدأ بارتدائها قطعة بعد الأخرى ونحن في طريقنا، بالتأكيد تلك الثياب ترتبط بتعبير جندري معين ونبرة صوت وسلوك وطريقة جلوس ومشية تتغير بتغير الثياب، هذا النفاق المفروض على الشخص قد ينتهي بالخروج من الخزانة ومعه نهاية خوفه الدائم من أن يصل خبر هويته تلك لأهله دون علمه وما يؤثر عليه ذلك الخوف المتواصل نفسياً في أداء شخصيتين مختلفتي التعبير والهوية والقصة والإسم أحيانا.
في ذات الوقت لا أعرف إلى أي مدى الخروج من الخزانة مفيد، كيف لمبدأ مبني على أساس إفتراض بأن المثلي يبرر نفسه فقط دون الغيري أن يكون مفيداً للأول، فحتى في الغرب لو كان وضع المثلي مثل الغيري لما كان هناك حاجة للخروج من الخزانة أو لكان الغيري خرج من الخزانة أيضاً بمعنى أن يكون الخروج من الخزانة للجميع بذات الطريقة لو كان هناك مساواة في الغرب، هذا يعني أن الخروج من الخزانة بحد ذاته يحافظ على نوع من عدم المساواة وغير نافع حتى في الثقافة الغربية.
ماذا لو لم يكن المجتمع جاهز لهذا الخروج؟ فنحن حينها نعرض أنفسنا لخطر الرفض وما قد يترتب عليه من طرد من البيت أو الإحتجاز فيه والعقاب أو سوء المعامله وربما الإصطحاب إلى طبيب أو معالج نفسي قد يمارس نوع من “العلاج التحويلي” في حال لم يكن ملتزم بقسمه على حماية الأشخاص من الخطر، والتي هي حالات شهدت عليها بنفسي وحدثت بالفعل لأشخاص أعرفهم/هن في المنطقة، وبهذه الحالة نحن بتسويقنا للخروج من الخزانة كنموذج ناجح قد نؤذي المجتمع المثلي، تلك الخزانة تبدو غير صالحه لثقافتنا بالفعل ليس فقط لأنها غربية بل لأنها تعرض حياتنا وحياة من نحب للخطر و لضغوطات مختلفه.
إلا أنه في الوقت ذاته قد تكون تجربة مهمة جداً في صياغة هوية الشخص وإحساسه بالراحة النفسية من خلال إشهار تلك الهوية فهو قرار شخصي ننصح بدراسته جيداً وأخذ الإحتياطات قبل إتخاذه حتى لا يعرض أحد نفسه للخطر، ونحن لا نعتقد أن خروج الفرد من الخزانة أمر سيئ لكن تسويقه على أنه الطريق الصحيح الإلزامي الوحيد هو السيئ، لذلك نحن نؤمن بأن وجود بديل نابع من ثقافتنا ذاتها وحاجتنا الأصيلة لن يؤذي احداً.
نحن لا نحاول العثور على بديل كي نخلق مقابل للخروج من الخزانة تقليداً للثقافة الغربية بل نحاول تلبية الحاجة التي قمع نموذج الخروج من الخزانة الغربي ثقافتنا كمثليين عرب من البحث عن وسيلة خاصة بنا لتلبية حاجاتنا وفرض نفسه علينا كنموذج جاهز.
البعض يرى التعامل مع الهوية كواقع طبيعي قد يلعب دوراً مهما بعلاقة الأهل والمحيطين ويلبي تلك الحاجات بشكل مختلف فيقترح ناشط مثلي مصري بأن نموذج واحة سيوة في مصر نموذج مناسب أكثر من الخروج من الخزانة فالعلاقات المثلية علاقات خاصة لا يتم الحديث عنها ويتم التعامل معها كالعلاقات الغيرية تماماً.
تقترح نور (ناشطة فلسطينية) “إنك تجيب صاحبك عالبيت تصريح غير صريح، ويختلف عن إنك تقول لأهلك اقعدوا بدي أحكيلكم شغلة عن حالي وتمر في عنف التصريح الصريح ألي المغايرين ما بيمروا فيه” وبهذا التصريح غير الصريح يمكن للأفراد حماية أنفسهم من ردات الفعل القاسية غالباً على الخروج من الخزانة في مجتمعنا وفي الوقت ذاته تلبية حاجاتهم النفسية المرتبطة بهويتهم المثلية.
الخزانة كمقياس للعصرية
مع الوقت أصبح مفهوم الخزانة أكثر من مجرد قرار شخصي وسيرورة يتخذه الفرد لهويته بل مقياس لحقوق المثليين في الثقافات المختلفة يحدد ما إذا كانت تلك الثقافة متحضرة و عصرية أم متخلفة وغير متسامحة مع المثلية الجنسية، هذه الثنائية واضحة فعلى سبيل المثال نجد عنوان تقرير جمعية أوت رايت المثلية الدولية الغير ربحية والتي مقرها في نيويورك حول وضع حقوق المثليين في العراق سنة 2014 عندما يمثل الخروج من الخزانة حكم بالإعدام: إضطهاد مجتمع الميم في العراق، يبدأ التقرير بعبارة أن “مجتمع الميم في العراق يجب أن يعيش تحت الغطاء حيث لا أمل ولا حل الأن” وكأن التقرير – في عنوانه على أقل تقدير – يطرح الخروج من “الخزانة” كالأمل والحل بدلاً من التركيز على حماية الأفراد من الإضطهاد كالأمل والحل وعلى عدم فرض نماذج عليهم/هن، وأنا أتسائل إن كان مجتمع الميم في العراق يعرف معنى مصطلح “الخزانة” من الأصل؟ بالتأكيد هذه الجملة تعبر عن نمط كامل من الإعلام الغربي الذي يبدأ الحديث عن الخروج من “الخزانة” كنوع من الشفقة على مجتمع الميم في العالم العربي ولينتهي بإثبات أن هذا العالم بربري متخلف بسبب عدم وجود مثليين خارج “الخزانة” فيه وهذا ما ينتج أنماط من العنصرية ضد المهاجرين ورهاب الإسلام حتى ضد المثليين العرب والمسلمين في الغرب، وهو ما نراه اليوم بالفعل من خلال تشجيع جماعات من المثليين في الولايات المتحدة لسياسات الرئيس ترامب المعادية للمهاجرين/ات، ومجموعات مثل مثليون ضد الإسلام، فالمقالة التي نشرت في 2014 على جريدة إنترناشونال بزنس تايمز الرقمية تحت عنوان التعذيب داخل الخزانة: يروي مثليي الشرق الأوسط قصصهم،الذي يعتبر كل شخص مثلي في الشرق الأوسط سجين “خزانته” ومعذب فيها والحل الوحيد أمامه هو الخروج منها ومن البلاد إن أمكن ويستكمل كاتبها جاريث بالت إقتباسه لقصص يرويها أربع أفراد عن أنفسهم من مصر وسوريا والأردن والإمارات المتحدة وتتمحور كل القصص حول خروج هؤلاء الأفراد من “الخزانة” وإضطرار ثلاثة منهم للهرب خارج الدول العربية و خارج تلك الخزانة الكبيرة، حتى يصبح مفهوم الخزانة رابطاً بين إضطهاد المثليين والشرق الأوسط كتوظيف إضافي لمفهوم الخزانة الأممية عند الحديث عن الشرق الأوسط.
وفي مقالة المجلة الأمريكية ذي أتلانتك عنوانها المملكة داخل الخزانة: “اللواط يعاقب بالقتل في السعودية العربية، إزدهار حياة المثليين فيها. لماذا أن تكون مثليا أسهل من أن تكون غيريا؟ في مجتمع جميع أفراده المثلي وغير المثلي في الخزانة”، على الرغم من تأكيد العنوان إختلاف مفهوم الخزانة عبر/بين الثقافات، لكن مع شديد الأسف ما يزال ذلك المفهوم يستخدم كعدسة معتمة لرؤية الواقع في منطقتنا لنجد جملة داخل المقالة واصفة حياة المثليين/ات في الشرق الأوسط تقول “الخزانة ليست خيار بل هي الطريقة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة”، لقد أنتج نموذج الخزانة – بسبب عدم الحساسية الثقافية في تناوله أممياً- العربي المسلم كآخر همجي و معادي للمثلية مجرداً إياه من إنسانيته، في الوقت ذاته مكرساً ومبرراً العنصرية والإسلاموفوبيا ضده، هذا الكلام لا يعني بأن ذلك العربي المسلم من الغير ممكن أن يكون معاديا للمثلية ولكن ليس وفقاً لجعل “الخزانة” معياراً لذلك، متناسيا ذلك النموذج بأن المثليين/ات العرب المسلمين أنفسهم سيسقطون ضحية العنصرية والإسلاموفوبيا التي أنتجها في الغرب، وليس فقط ضحايا تعريضهم لخطر الخروج من تلك “الخزانة” في بلدانهم الأصلية.
ففي مقالة كتبها براين ويتاكر مؤلف كتاب الحب الممنوع حياة المثليين والمثليات في الشرق الأوسط والذي صدر باللغة الانجليزية في 2006 المقالة نشرت في صحيفة الجارديان البريطانية في 2016 تحت عنوان كل ما تحتاج معرفته حول أن تكون مثلياً في دولة مسلمة، يعترف بأن الخروج من “الخزانة” قد يعرض الأفراد لردات فعل سيئة كالنبذ من العائلة أو الأذى الجسدي أو الإجبار على “العلاج” من خلال الدين أو من خلال علم النفس، لكن ويتاكر يعود في منتصف المقالة و يقرر بان “المشكلة التي تؤثر على حياة جميع المثليين – في كل مكان – في مرحلة ما من حياتهم هي الخروج من الخزانة، بالنسبة للمسلمين قد يكون هذا قرار صعب بشكل إستثنائي” لنعود مرة أخرى لعالمية “الخزانة” وفرضها على الثقافات في كل مكان وعلى جميع المثليين، مرة أخرى نستخدم “الخزانة” كمعيار دون التساؤل ما إذا كان من الأساس ثقافياً هذا ممكناً من قبل الكاتب وهو التساؤل ذاته الذي بدأت منه هذه المقالة إحساساً بحاجة طرحه وإفتقاده في كل تلك المقالات والكثير غيرها، هذا ما يجعل الجلوس وأخذ المبادرة للنقاش في غاية الأهمية، النقاش حول مدى مناسبة الأساليب النضالية المرتبطة بهويتنا قبل تبنيها والعمل بها أو التسويق لها وتعميمها في ثقافاتنا وهذا هو الهدف من هذه المقالة، لأن هذا النقاش هو الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها إكتشاف ما إذا كان المكتوب هنا هراء نخبوي لا أكثر، أم تعبير حقيقي عن مشكلة قد تعرض الكثير من الأشخاص لا بل وأيضاً شعوبنا لخطر في المستقبل.