بقلم: إيمان عمارة
تصوير: عمر شاع
تنسيق وتلبيس: جاد تغوج
الشخصيات: أم محمد و فاطمة ثعلبة
لإخراج الإبداعي: خالد عبد الهادي
هذا المقال من عدد سنة ورا سنة

شغلت عدة جدليات الفلاسفة وعلماء اللاهوت وعامة البشر ليومنا هذا، دون أن يجدوا لها إجابات مقنعة وترضي جميع الأطراف، لعل من أشهرها جدلية الروح والجسد وجدلية البيضة والدجاجة بالإضافة لجدلية من ستنقذ بين ركاب القطار والرضيع المربوط على قضبان سكة الحديد؟ لا تنتمي الجدلية التي يتطرق لها هذا المقال إلى المجال الفلسفي أو اللاهوتي، لكنها لا تقل إثارة لللغط والنقاشات ذات التداعيات على حياة الأفراد والجماعات “من تركب في المقعد الأمامي للسيارة إلى جانب الزوج؟ أمه أم زوجته؟”. 

يصادفني هذا السؤال بشكل دوري كلما تصفحت مواقع التواصل الاجتماعي أو دخلت إحدى المجموعات النسائية التي أحرص على الاشتراك بها، ورغم مرور الزمن، لا يجد هذا السؤال -الذي تتضح أهميته من كم التعليقات وعدد الشجارات التي يستدعيها-  إجابة شافية عند جمهور النساء والرجال على حد سواء. في الحقيقة هنالك إجابة متكررة وحيدة وتكاد تكون الغالبة، لكن العديد من النساء يرفضنها وإن لم ينجررن لإعلان ذلك خوفا من التبعات: أن المقعد الأمامي منذور لأم الزوج لأسباب تتعلق بالسن والمكانة داخل الأسرة والاحترام والتبجيل اللذن يترتبان عن تلك المكانة الخاصة. 

لماذا يثار كل هذا اللغط حول الجلوس على مقعد سيارة أثناء رحلة قد لا تتجاوز الساعة؟ إنها الرمزية… منطقيا، كل ركاب السيارة سيصلون في نفس التوقيت إذ يستخدمون وسيلة النقل نفسها. علميا، المقعد الأمامي إلى جانب السائق يسمى مقعد الميت، فعند الحوادث، يعتبر راكبه الأكثر عرضة للوفاة أو للإصابات الخطرة. رمزيا، وهذا ما يحدد مكانته، فهو الأقرب للعرش، عرش السائق/ رجل البيت، صاحب السلطة العليا في العائلة وفي نفس مستواه. أيضا، وجوده في مقدمة السيارة يجعل من يجلس عليه مرئيا وتحت أنظار للجميع بفضل المساحة الزجاجية الكبيرة، عكس المقاعد الخلفية والتي لا يمكن رؤية راكبيها إلا من الجوانب، أو عند نزولهم من السيارة. أيضا، وعلى الرغم من انتشار السيارات في مجتمعاتنا، إلا أنها ما تزال مؤشراً على مستوى اقتصادي معين، لذا فالأم أولى بالتمتع بخيرات ابنها من الوافدة الجديدة التي لم تتعب في حمله ولم ترضعه ولا سهرت الليالي في رعايته، بل لا تمت له بصلة وتنتهي علاقتها به لو وقع طلاق.  أيضا، وعلى الرغم من انتشار السيارات في مجتمعاتنا، إلا أنها ما تزال مؤشراً على مستوى اقتصادي معين، لذا فالأم أولى بالتمتع بخيرات ابنها من الوافدة الجديدة التي لم تتعب في حمله ولم ترضعه ولا سهرت الليالي في رعايته، بل لا تمت له بصلة وتنتهي علاقتها به لو وقع طلاق. وعلى عكس التقاليد الملكية، فإن من تجلس على العرش، إلى جانب الملك، إلى جانب الملك، ليست بالضرورة الزوجة وإنما الملكة الملكة الأم. هذا الصراع على العرش إنما هو في الحقيقة صراع على السلطة بين جيلين من النساء داخل العائلة الواحدة. نظريا، تتركز السلطات في المجتمعات البطريركية (أبوية) كلها، بيد الرجال. عمليا وواقعيا، هنالك تدرج هرمي للسلطة، قد تحصل فيه النساء على بعض الامتيازات وإن كانت وإن كانت في مقابل شروط عدة، لكنها تسمح لهن بالوصول لمكانة عالية ، لكنها تسمح لهن بالوصول لمكانة عالية. 

في المجتمعات الأبوية، ينظر للمرأة الشابة باعتبارها مصدرا للريبة والخوف بسبب جنسانيتها النشطة ولا تتخلص من هذا التصور، والقيود المرتبطة به، إلا من خلال التقدم بالعمر حيث تحظى أخيرا، بالاحترام باعتبارها محايدة ولا سبيل، من وجهة النظر هذه، لأن تمارس الجنس وتنحط قيمتها حتى في وجود زوج لها، فالمرأة التي تتخطى سنا معينا غير جاذبة للرجال في المخيلة الجمعية. وحتى دينيا، فالإسلام، مثلا، يشير لفئة القواعد من النساء وهن لسن فقط من تجاوزن سن الإنجاب، بل من لا يُشتهين من النساء ولا يثرن أية رغبات فيسقط عنهن فرض الحجاب على سبيل المثال. لكن، قبل الوصول لهذه الجائزة الكبرى، تمر المرأة بعدة درجات من الاحترام، أولها عند الزواج حيث تصبح في عصمة رجل مسؤول عن سلوكها وتقويمه حتى تستحق أن تحمل اسمه، ثم تحمل أولاده فتترقى “احتراميا” مجددا خاصة إذا أنجبت رجال المستقبل الذين يضمنون لها مكانة لا يستهان بها داخل الهرم العائلي. مع كل درجة ترقية، تحظى المرأة بسلطة أكبر، فهي الملكة في بيتها ثم الآمرة الناهية على أولادها، وفي بعض الأحيان، على جميع أجيال العائلة حتى الأحفاد منهم. 

تصوير: عمر شاع, تنسيق وتلبيس: جاد تغوج, الشخصيات: أم محمد* و فاطمة ثعلبة*, لإخراج الإبداعي: خالد عبد الهادي

ولعل أهم سلطة يتنازل عنها المجتمع ورب العائلة للزوجة والأم هي اختيار زوجات أبنائها، تلك اللحظة التي تنتظرها ملايين النساء ليفرضن، أخيرا، صوتهن وينتقين من تصلح لتنال شرف الارتباط  ب”روح أمه” وفلذة كبدها بعد اجتياز اختبارات أكثر تعقيدا من تلك التي تتيح للناجحين فيها الانضمام لأكثر مخابرات العالم سرية. نقطة التحول هذه، هي بداية الصراع بين الحموات والكنّات على الظفر بالجائزة الكبرى، رجل البيت، ويبدأ التنافس من الأطباق وطريقة تحضيرها إلى اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بالأسرة الصغيرة الجديدة، مرورا بمعضلات وجدليات مثل من تركب إلى جانب السائق؟ صراع المرأتين حظي باهتمام كبير من المجتمع وظهر ذلك على شكل أمثال شعبية متعددة تتناقلها الأجيال كـ “إذا تفاهمت العجوز والكنة، يدخل ابليس للجنة إذا تفاهمت العجوز والكنة، يدخل ابليس للجنة “، وظهر أيضا في الفنون المختلفة، خاصة الأدب والسينما والدراما والتي عادة ما أنصفت أم الزوج، فالجنة تحت أقدام الأمهات، وهذا ما وجدنا عليه آباءنا وأي تغيير قد يزعزع الأسرة والمجتمع كله ويهز الثوابت. ولعل من أهم الشخصيات التي تم تقديمها هي شخصية فاطمة ثعلبة في مسلسل الوتد، كتابة الروائي والقاص خيري شلبي. فاطمة ثعلبة هي وتد البيت والأسرة التي تختار زوجات أولادها وتتحكم في شتى مناحي الحياة داخل البيت المشترك ولا يجرؤ أحد على الاعتراض عليها أو حتى مناقشتها  فيما تأمر به، ولا حتى أبناؤها الرجال.

ولا يقتصر حضور الحماة كرمز للسلطة المنزلية على الدراما الجادة فقط، ب  الفنون الساخرة والكوميديا، ولطالما كانت علاقة الحماة بالكنّة مادة خصبة للنكات والمواقف الطريفة أو الساخرة وإنتاج الكوميديا. ففي كثير من الافلام و المسلسلات الكوميدية والـ”سيتكومات” الناطقة بالعربية، تظهر الحماة كشخصية متسلطة وفضولية وتتدخل في كل كبيرة وصغيرة، من نوع الأرز المستخدم في الطبخ إلى طريقة تربية الأحفاد وتسعى لمضايقة زوجة ابنها أو حتى التخلص منها عبر الطلاق وتخصصت ممثلات بعينهن في مثل هذه الأدوار وعلو رأسهن ماري منيب في نفس الوقت،  تُصوّر الكنّة كضحية دائمة تحاول النجاة في “معركة بقاء منزلية” إلا في أعمال قليلة كرست صورة الكنة كفرد دخيل على العائلة ومحركا للصراعات يسعى لتفرقة الشمل. حتى في الاسكتشات الكوميدية والـ”ستاند أب”، تُطرح العلاقة بين الحماة والكنّة كصراع أبدي، يُضحك الجمهور لأنه يعكس واقعًا مألوفًا، ومبالغةً تريح الناس من ثقل الحياة اليومية وتوتراتها العائلية. هذا الحضور المكثّف في الكوميديا لا يعكس فقط تعقيدات العلاقة، بل يعزز أحيانًا الصور النمطية، حتى ولو بضحكة، ويعيد إنتاج مفاهيم الهيمنة والخضوع داخل النسيج الأسري بطريقة مغلّفة بالدعابة لكنه لا يقدم أية حلول. وتكفي نظرة سريعة على  عناوين بعض هذه المواد مثل: “إزاي تكيدي حماتك؟” أو “خطة الكنة المحترفة” لفهم كيف أصبحت هذه العلاقة تُقدَّم للجمهور كمسابقة مفتوحة، أو كأنها مباراة تكتيكية تتطلب استراتيجيات وحيلًا لإثبات السيطرة أو تفادي الخسارة.

وعلى صعيد آخر  يمكننا استيعاب المكانة التي تحتلها أم الزوج داخل الأسرة باعتبارها تمثل، داخل عالم النساء، العائلة التي سوف تنتمي لها المرأة منذ لحظة زواجها، فالنساء في المجتمعات الأبوية منذورات للآخرين: الزوج وأهله، لذا فهي التي ستكون مسؤولة عن تهيئتها وتجهيزها لتصبح فردا من العائلة الجديدة، مما يخلق بالضرورة مشاكل وصراعات بين عادات وخلفيات متباينة، وأيضا بين جيلين مختلفين. وإذا كانت تلك الصراعات قديما تنتهي باعتذار الكنة باعتبارها الأصغر سنا وتعيش في كنف وبيت أهل الزوج، فإنها اليوم ومع التحولات التي شهدها المجتمع وخروج النساء للعمل واستقلاليتهن الاقتصادية وانفصال الأزواج الجدد لتكوين أسر نووية في بيوت مستقلة، أصبحت أشبه بحرب بين طرفين متعادلين في القوة، وانتقلت ساحتها لمناطق مستحدثة مثل تربية الأطفال واختيار أسماءهم والجلوس على المقعد الأمامي للسيارة طبعا. هذا الصراع هو أيضا صراع بين امرأتين، حيث عودتنا المنظومة الأبوية أن نكون دائما في حالة تنافس مع الأخريات من أجل رجل، أي رجل يلوح في الأفق. في أحيان كثيرة، تنظر الحماة لزوجة ابنها على أنها منافسة أصغر سنا وأكثر جذبا منها خاصة في الشهور الأولى للزواج، حيث تعتني العروس الجديدة بزينتها بشكل كبير، فتسعى والدة الزوج للظهور بمظهر أكثر شبابا وجمالا، أو تثقل كاهل كنتها بالأعمال المنزلية والرعائية، فلا تجد وقتا للاهتمام بنفسها. وقد تسعى الحماة أيضا لعرقلة الجانب الوحيد الذي لا تستطيع المنافسة عليه، الجنس، فتتفنن في استراتيجيات الإزعاج وقض المضاجع، رغم أنها أول من يراقب ملابس الزوجة الداخلية للاطمئنان على كون ابنها (عزيز عينها) يحصل على حقه الشرعي في المتعة كاملا، وأن الأفعى السامة استحقت تضحياتها وتنازلاتها وستنجب لها الحفيد المنتظر. بالإضافة لكل ساحات الحرب هذه، ففي المجتمعات التي تحمل فيها الزوجة لقب عائلة زوجها وتسمى باسمهم رسميا، فإن الصراع يشمل هذا الجانب أيضا ومن لها الأحقية في أن تكون مدام “كذا” الأصلية والسيدة الأولى.

تصوير: عمر شاع, تنسيق وتلبيس: جاد تغوج, الشخصيات: أم محمد* و فاطمة ثعلبة*, لإخراج الإبداعي: خالد عبد الهادي

يبلغ هذا الصراع الأزلي ذروته في حالة ما إذا كان الإبن وحيد أمه ويشتد أكثر وأكثر إذا كانت الأم قد ربته بمفردها بعد ترمّلها أو طلاقها أو تخلي الأب عن مسؤولياته. في هذه الحالة، تتعقد الأمور أكثر فيحل الابن مكان الزوج في نظر الأم وتعتبره بديلا عاطفيا للحب ولوجود رجل في حياتها (أحيانا هذا الإسقاط يتجاوز الأم ليشمل أيضا الأخوات وينتج نفس الصراعات التي قل لا تنتهي إلا بحصول كل واحدة منهن على رجل يخصها) ولا تنفك تذكره بتضحياتها من أجله وتنتظر حتى بعد زواجه وإنشائه أسرة، أن تظل مركز الكون بالنسبة له، بل وبالنسبة لزوجته أيضا باعتبارها تنازلت لها عن رجلها، وكل هذا بمباركة المجتمع والدين حيث يتم إدراجه تحت مسمى بر الوالدين والذي يأخذ مناحي غير سوية مثل التي نطالعها يوميا على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث ترتدي أم فلان فستان زفاف أبيض يوم عرسه لتكيد كنتها، ويتجاهل علان عروسه تماما ليرقص مع أمه ويقبلها ويتقاسم معها تورتة الزواج، أو ينطلق في خطبة عصماء للتقليل من شأن زوجته وتعظيم أمه وقد ينتهي بمشهد مبتذل لتقبيله قدميها وسط إشادة الجميع بحسن أخلاقه وتربيته. 

وعلى الرغم من كون الصراع بين الحماة وزوجة الابن يحتل مساحة هائلة من الحياة اليومية للنساء، إلا أن عدسة النقد النسوي ظلت تتجاهله مع أنه بيئة خصبة ومثالية لدراسة موازين القوى بين المرأتين وأيضا أشكال الصراع وتلك العلاقة الفريدة من نوعها، فلا هي علاقة بيولوجية أو تحكمها صلة الدم، ولا هي بالصداقة التي نختارها أو زمالة العمل، فكلا الطرفين مجبران على العيش والتعامل معا في إطار الحياة الشخصية، وأحياناً الحميمية، دون اختيار مسبق منهما. ربما يأتي هذا التجاهل بسبب ارتباط صراع الحموات والكنات بالطبقات والمسلسلات الشعبية التي لا تستهوي الكثير من الأكاديميات، أو لأنهن بعيدات عنها بحكم خلفيتهن الاجتماعية أو نمط حياتهن غير التقليدي والذي لا يجعلهن عرضة لهذه الصراعات فلا يدركن أهميتها بالنسبة لغالبية النساء في مجتمعاتنا. بل ويمكننا حتى دراسة تراتبية العلاقات والمواقع إذا ما استخدمنا نفس السؤال مع أطراف مختلفين، فندرك مثلا أنه في حالة وجود رجل، حتى لو كان مجرد عابر، أو مراهق، ترجع الأم والزوجة للوراء لتتركا له المقعد الشرفي الأمامي ليتبوأه . 

وقد يسأل السائل: ما الحل وما العمل وكيف ننجو من هذا المأزق؟ والحقيقة أنه حتى عندما عرضت المعضلة على الذكاء الاصطناعي لم يمنحني الجواب الشافي، بل ذكرني بأهمية احترام الكبير وبمكانة الأم في الإسلام التي ترشحها للجلوس على المقعد الأمامي في سيارة ابنها في الدنيا من أجل أن يضمن هو الجلوس تحت قدميها في جنة الآخرة. وربما سنعيش طويلا لنشهد السيارات الطائرة لكننا نرجو من السادة المخترعين مراعاة فروق الثقافات المحلية والمعضلات العائلية ونهيب بهم كي يصنعوا مقعدا أماميا يتسع للثالوث المقدس : الأم والابن والزوجة حفظا للأعصاب والمشاعر والبيوت المفتوحة والأطفال الذين سيتشردون في الشوارع. وعندما يستتب الأمن والأمان في سيارة الزوج، سيكون من حقنا أن نفتح ساحة جديدة للصراع وفقا لمعطيات الحياة الجديدة: من تركب إلى جانب المرأة التي تقود سيارتها؟ أمها ولا حماتها؟