بقلم: نزيهة سعيد
العمل الفني: لينا
هذا المقال من عدد سنة ورا سنة
يضطر بعض الأشخاص إلى ترك الوطن والعيش في المنفى لأسباب متنوعة، سياسية واقتصادية واجتماعية، مترابطة ومتشابكة تتصل بأنظمة القمع والاستعمار والتسلط المهيمنة على الكثير من بلدان المعمورة، بحثا عن مكان أكثر أمانا، أو مصدر للرزق، أو حتى ليعيشوا حقيقتهم/هن في بعض الأحيان.
يمثل الأشخاص متنوعي/ات الهويات الجنسية والجندرية غير السائدة، إحدى هذه الفئات التي تضطر لمغادرة أوطانها أحيانا بسبب نضالها من أجل حقوقها، أو بحثا عن مكان أكثر أمانا أو تقبلا. فما الذي يعنيه أن يغادر هؤلاء أوطانهم/ن من أجل هوياتهم/ن الجنسية والجندرية؟ وما الذي تخلقه هذه التجربة من تحديات ومن فرص؟ وكيف يتعامل الباقون/يات في الوطن مع هؤلاء الذين/ اللواتي اضطروا/رن للمغادرة إذا كان نشاطهم/ن ونضالهم/ن مستمرا من المنفى؟ ما هي الديناميات التي يخلقها المنفى في النضال والنشاطية وفي الحياة بشكل عام؟
يحاول هذا المقال الإجابة على هذه التساؤلات عبر الحديث مع عدد من النشطاء والفنانين/ات من مجتمع الميم – عين من منطقة غرب جنوب آسيا وشمال إفريقيا، ممن اضطروا/رن لمغادرة الوطن بسبب الهوية الجنسية والجندرية والعمل والنشاط في هذا المجال.
علاقة معقدة
يعتبر “الدرويش” وهو ناشط وفنان سوري كويري أن علاقته بمجتمعه “معقدة” قائلا: “كل ما أحاول فعله أني أُظهر بلدي وشعبي وثقافتي بأحلى حلة، ولكن سنوات من التمييز ورهاب المثلية تجعلني أشعر بعدم الارتباط بشكل كامل [به]، ومع ذلك سوريا تبقى في دمي، وأؤمن أن دوري كفنانـ/ـة هو التوعية وإيجاد التعبيرات الرابطة بين مجتمعاتنا” .يلبس الدرويش الطربوش بشكل دائم في العلن كجزء من الحفاظ على الهوية، “وهو ما جعل الكثير من الكويريين/ات الآخرين/ات يرتدون الملابس التقليدية في العلن متخلين/ات عن الخوف من النظرات العنصرية” كما قال.
اضطر د. محمد برجي، وهو طبيب مصري وناشط في مجتمع الميم عين للهجرة إلى فرنسا، بعد خطر الملاحقات القانونية، وصف نضاله في المكانين: “نضالي في مصر هو لإثبات هويتي كشخص مثلي. أما هنا في أوروبا، فنضالي هو لإثبات كوني عربي ومهاجر ينتمي لهذا المجتمع (سواء المجتمع الفرنسي ككل أو المجتمع المثلي الفرنسي)، هذا النضال وهذه الهوية يتم تهميشها أو إقصاءها أيضاً، ليس فقط في المساحات العامة ولكن على المستوى الحميمي والشخصي أيضا، فالبعض يتجاهل كوني عربيا، ويكتفي بتعريفي كمهاجر مثقف، وهذا يشعرني بالألم وكأنه لا يمكن أن أكون عربيا ومثليا في نفس الوقت”. أسس برجي جمعية رينبو إيجبت في مصر وجمعية صحة المهاجرين/ات في فرنسا، “معلقا “لأن الحياة لا تقف والنضال لا يجف.
وعن علاقته بالوطن والمنفى قال: “أنا متصالح مع نفسي ولا أنكر أي جزء من هويتي سواء في وطني العربي أو في وطني الأوروبي، أعتقد أنني لست مندمجا بالكامل في أي مكان وراض بذلك”، مشيرا إلى أنه يشتاق وينجذب لـ”اللقاءات العربية والشرقية سواء الحفلات أو النقاشات أو الصداقات والدوائر الاجتماعية، ولكني اليوم لا أشتاق ولا أحلم بالعودة للعيش في أوطاننا”.
فيما أكد الناشط الكويري التونسي “ب” الذي يعيش في فرنسا حاليا، إنه لا يشعر بالغربة، لأنه اضطر لترك بلاده بعد ملاحقات قانونية، كما أنه ظل على اتصال بالنشطاء في البلاد وكذلك استكمل عمله الجمعياتي من أجل حقوق مجتمع الميم عين، يقول “أثر العمل عن بعد إيجابيا لأني بصدد إنشاء شبكة في فرنسا، كما نقلنا إدارة الجمعية لفرنسا وذلك حسب خطة أمنية، أما على الصعيد الشخصي فأنا على تواصل مع زملائي وزميلاتي طوال اليوم عن كل التفاصيل، أحس أنني محمي بمجموعة كاملة، ومهم بالنسبة لي أن أكون محاطا بهم، وبعائلتي”. مشيرا إلى أن النشطاء في تونس اليوم يتعرضون للسجن والتحقيق والمنع من السفر والحد من حرية التنقل والملاحقة والاعتقال بشكل يومي.
تغير الاستراتيجيات
الدرويش الذي يعيش حاليا في ألمانيا كالعديد من الفنانين/ات من مجتمع الميم عين العربي يقدمون عروضهم/ن وفنهم/ن في المنفى، وحصل على ألقاب وجوائز فخرية تقديرا لفنه والتزامه بالنضال. يقول: “أعطاني المنفى مساحة تأملية لأعيد تقييم تجربتي وخيارات حياتي كشخص وكفنان/ة فانتقلت من التعبير عن الألم والفرح والقلق والبهجة الشخصية فقط إلى الغوص في قضايا أوسع تشمل الهوية الجماعية والجندرية والمساواة والبحث عن الوطن في سياق فقدانه، كما منحني المنفى وصولا إلى منصات دولية، وهذا حمّلني مسؤولية أكبر في تمثيل قضايا السوريين/ات بشكل حقيقي وإنساني”.
ينظم الدرويش حفلات وعروض مسرحية فنية تسلط الضوء على الحراك الاجتماعي لمجتمع الميم عين في سوريا والمنطقة، ويقول عن ذلك “غالبا ما تهمش هذه الأصوات، لذا أستغل أي فرصة مسرحيا كانت أو على وسائل التواصل الاجتماعي لتسليط الضوء على هذا الحراك أو التنويه على ما يحصل في سوريا”. واستطاع الدرويش من خلال عدد من الفعاليات جمع التبرعات والمساعدات للكثير من القضايا على الأراضي السورية واللبنانية وللمحتاجين/ات في برلين أيضا.
اعتبر الدرويش أن توثيق القصص سواء من خلال الفيديوهات أو العروض هو وسيلة لخلق جسر بين الداخل والمنفى، كما يرى بأن الشراكة مع المنظمات غير الحكومية والمجموعات الناشطة، أداة فعالة لتقديم الدعم العملي على الأرض 1أيضا “وهذا ما نفعله مع حفلات ملكات ضد الحدود “.
وأشار الدرويش خلال حديثه إلى أن “الفنانبن/ات داخل الوطن يعيشون/ن وسط تهديد مستمر، سواء من القمع السياسي أو ظروف الحرب، لكنهم/ن يتمتعون/ن بشجاعة استثنائية، لأن استمرارهم/ن في الإبداع بحد ذاته هو فعل مقاومة، كما أن أعمالهم/ن تحمل أصواتا صادقة تعبر عن معاناة الناس اليومية”.
أما الناشط ص. أ. من الأردن فبيّن أنه لا يزال على تواصل حقيقي مع فريق نشطاء وفنانين/ات لا زالوا يعملون/ن في المنطقة “وبعدي عن بلدي ومنطقتي أثر بطريقة إيجابية [علي]، جعلتني أعمل أكثر لأساهم في تمكين المساحات والأشخاص والنشطاء الموجودين/ات في منطقتنا، ومؤمن أكثر بأهمية الاتصال الدائم بيننا، للعمل سويا، والخروج باستراتيجيات موحدة وتكتيكات مؤثرة وشاملة بين المنفى والوطن”.

العمل الفني: لينا
اضطر البعض لتغيير طبيعة عمله بالكامل د. برجي: “تحول الجزء الأكبر من عملي إلى الجانب البحثي وأيضا في مجال المناصرة، بالإضافة لتمرير السلطة للمناضلين/ات الباقين داخل الوطن ، وارتقى عملي ليصبح وطنيا أو إقليميا وليس محليا، كما زادت مشاركتي الإعلامية سواء عبر الإذاعة أو التلفزيون، فالامتياز الجغرافي بالإقامة في أوروبا قلل التوتر الأمني”.
بدأ التضييق على الحريات الشخصية والحراك المجتمعي في تونس يسبب قلقا للنشطاء اللذين/اللواتي تعرض بعضهم/ن للخطر والملاحقات، يقول الناشط “ب”: “خلال عملنا أصبحنا نستخدم بعض الأدوات دون غيرها حتى نتجنب بعض التدخلات، أما بالنسبة لاستراتيجياتنا فقد أعطينا مساحة كبيرة للحماية والفن الكويري، وغيرنا طريقة عملنا فيما يتعلق بمكان إقامة الأنشطة وبأي طريقة وكيفية الإعلان عنها، كما أننا أخذنا خطوة للوراء وقمنا بمراقبة الوضع وأغلقنا مقرنا، وأخذنا مساحة للعمل على تقارير وبحوث، حتى عودة الأنشطة في مساحات آمنة”، مشيرا: “نحن اليوم أمام معركة كيف نكون موجودين/ات في هذه الظروف”.
التحديات
ويسلط الناشط ص. أ. من الأردن الذي يعيش حاليا بألمانيا الضوء على التحديات التي واجهت نشاطه في الوطن: “واجهنا تحديات أمنية عديدة بعد تجربة خلق مساحة كويرية آمنة للفئات المهمشة والأقليات في الأردن، فقد استخدمنا الفنون والثقافة كوسيلة للتغيير والاندماج والتقبل بين الجميع، وتم استخدام وسائل فنية متعددة مثل المسرح لإنتاج قصص حقيقية، سواء من المجتمع الكويري أو مجتمع المهاجرين/ات، أو مجتمع الأقليات بشكل عام، لخلق سردية لقضاياهم/ن داخل المجتمعات المحلية المغلقة”.
قد تكون التحديات التي يواجهها النشطاء والفنانون/ات في المنفى تتعلق بالعمل، ولكن الكثير منها شخصي وعاطفي كما يوضح الدرويش: “لفترة جدا طويلة كنت أشعر بذنب الناجي/ة، فأنا أعيش حياتي أتنقل في أوروبا بالطول والعرض مشاركا بفني ورقصي وعملي، إلا أن داخلي يصرخ بالألم لأنني لا أستطيع مشاركة لحظات حياتي المهمة مع عائلتي المحبوسة تحت قمع نظام الأسد في سوريا! مع الوقت استطعت التعامل مع هذا الشعور وفهم منبعه والتسامح معه، كما أنني ما زلت عالقا في سوريا وأشعر بالغربة خارجها، ولكنها تدفعني لمزيد من الإصرار على العمل”.
يشعر د. برجي بـ”العزلة على الرغم من تواصلي المستمر مع مناضلين/ات سواء من بلدي أو من منطقتي عبر الإنترنت، ولكن مستحيل إنكار هذه العزلة عن المجموعة، إلا أنني لا أشعر بالذنب ولكن في بعض المرات أشعر بالندم أني كنت أكثر شجاعة من الكثير حين كنت في مصر”.
وأشار د. برجي خلال حديثه إلى أنه حين كان في مصر رفض ما أسماه بـ”التسلط من مناضلين/ات المهجر أو المنفى، لتعاملهم/ن بتعالي بسبب امتيازهم/ن الجغرافي أو المهني” وقال بأنه اليوم كمناضل يعيش في المنفى: “مدرك لهذه الامتيازات ولا أكرر أخطاء السابقين/ات، بل بالعكس أمد يد التعاون مع الجميع ولا أقوم فعليا بأخذ قرارات فوقية”.
لدى الناشط التونسي ب. أقرباء في فرنسا ولكن يصعب عليه العيش بعيدا عن زملائه/يلاته، أصدقاءه/صديقاته وعائلته الصغيرة، “خصوصا أبناء أختي المقربين مني، وأحسست للمرة الأولى بالذنب لبعدي عنهم/ن”، أما فيما يتعلق بزملائه/ يلاته فقال إنه لم يحس بالذنب، لأن الخطة الأمنية تم وضعها من قبل الجميع وتم التوافق عليها.
أفكار نمطية
قد يأخذ بعض الأشخاص الذين/اللواتي يبقون في أوطانهم/ن فكرة غير واقعية عن الأشخاص الذين/ اللواتي يغادرونه، وقد يحس المغتربون/ات بالذنب لتركهم/ن النضال من خلفهم/ن أو لتنعمهم/ن بالحرية والانفتاح بينما يقبع الآخرون/الأخريات تحت القمع والضغوطات والخطر.
عن ذلك قال الدرويش: “نعيش في قارتين مختلفتين، بروتين حياة ومجتمع مختلف تماما وهذا ليس ذنب أحد، هذا ليس مبررا لإقصاء الغير ونبدأ بالرجم واستخدام لغة الكراهية، أحيانا يُنظر إلى النشطاء في المنفى على أنهم/ن أقل إدراكا للواقع اليومي على الأرض، قد يكون ذلك صحيحا ولكن من الضروري بناء جسور التفاهم بين الطرفين، عبر إظهار الاحترام والتقدير لتضحيات النشطاء في الداخل والخارج”.
فيما علق د. برجي على الموضوع ذاته: “النشطاء في دولنا، هم/هن أبطال وبطلات بلا شك. فهم/هن يستمروا/ن في النضال بالرغم من الظروف المحيطة بهم/ن من قلق أمني مستمر، تضييق المساحات العامة والعمل المدني، الحروب الأهلية وانكماش اقتصادي. كل هذه التحديات من الممكن أن تكون مجهضة للنضال، ولكن التحدي الأكبر هو الاستدامة. أيضا مهارة العمل المجتمعي مهم جدا وهو ما يقومون به بالفعل وامتياز وتقدير لهم/ن”.
وعن الأفكار النمطية بيّن د. برجي: “المجتمع والمؤسسات الغربية لا تزال يتعامل بتعال ولا تتفهم التحديات التي يواجها مناضلون/ات منطقتنا، وآخرها وأهمها الإبادة التي تحدث في فلسطين الآن، فلا يزال علينا التعامل مع التفوق العرقي والنظرة لنا بنظرة عطف”.
وأضاف: “لا يوجد عدالة حقيقية بين النشطاء والأوروبيين/ات وبيننا، ويتم وضعنا دائما في خانة الأقليات أو التنوع الثقافي ولكن لسنا جزءا من أخذ القرار وهذا ما دفعني للابتعاد عن العمل المدني في الجمعيات الفرنسية”.
اعتبر الناشط التونسي ب. أنه من المعيب معايرة الناس بمعيشتها في الخارج، “فنحن عشنا أزمنة طويلة في بلداننا ونعرف ما يحدث فيها واضطررنا للخروج ولم ننفصل عن البلد واستمرينا في المساعدة والعمل، فنحن لسنا بعيدين/ات عن النضال”.
وأخيرا قال الناشط الأردني ص. أ. “من المهم الانتباه إلى ألا يكون هناك تأثير سلبي لعمل العمال في الخارج على العمال في الداخل ووضعهم/ن في خطر، وننتبه للتواصل بين من في الداخل مع من في الخارج لتسريع حركة المناصرة والتغيير والنمو بهذا النضال”. عن نفسه يقول: “أصبحت أكثر وعيا بالتنسيق بين الخارج والداخل، فالبعد لا يمنحنا الحق في العمل لوحدنا ولكن بخط تواصل مع من هم/ن في الداخل، والتأكد مع عدم تعريضهم/ن للخطر، علينا أن نحاول تقوية من لا يزالون في أوطانهم/هن”.