English

كلمات: محمد أبو حجر و أحمد عسيلي
عمل فني: عمر
هذا المقال من عدد سنة ورا سنة

هذا النص محاولة أولية لقراءة مجرى الأحداث في العقد الأخير بعدسة نقدية، ورغم طولها، نأمل أن تتسع المساحات للبناء عليها

يبدو جلياً أن البحث في قضايا الجندرة والنسوية في المنطقة العربية قد أخذ منعطفاً منذ بداية العقد الثاني للقرن العشرين، سيمهد لزيادة التداول بالاصطلاحين ذاتهما إضافة إلى عدة اصطلاحات أخرى من قبيل كوير وترانس وبرايد وغيرها. وإن كانت تلك الانعطافة قد خلقت مساحات وفضاءات جديدة للنقاش النظري والمعرفي وحتى “للخروج من الخزانة”1 (coming out of the closet) أو الخروج للعلن على المستوى الفردي، خروجا لم يكن ممكناً قبل تلك اللحظة. لكن تلك الانعطافة رغم كل ما تنطوي عليه من إمكانيات وفرص، فإنها تدفعنا أيضاً للتفكر بجملة من القضايا التي تظهرها إلى السطح.

بشكل فج تتقاطع النظرة الاستعمارية مع النظرة التحريمية المحلية في مجتمعنا الأبوي-الغيري. فبينما ينكر المجتمع والسلطة في العالم العربي وجود مجتمعات لها ميول جنسية مختلفة في هذا العالم ولها امتداد في التاريخ والثقافة وطقوس عميقة الجذور وتصوير ذلك الوجود برمته بصفتهم “أفراد ضائعين” أو “غزوة ثقافية غربية”، بينما تنكر النظرة الاستعمارية على المجتمعات الكويرية المحلية وجودها إلا فيما يخدم مصالحها الإمبريالية ويتماهى مع جملة التعريفات والمعايير التي يحددها المركز الاستعماري ذاته، كالخروج من الخزانة وعلم الرينبو والعمل المنظماتي والقوالب الجندرية المتعارف عليها في المركز الغربي وجملة من أشياء أخرى يتم إنتاجها في أميركا الشمالية غالبا ومن ثم تصدر إلى بقية العالم كما تصدر الحروب والرأسمالية وجملة ما يطلق عليه “دولي” رغم أنه غالباً ما يتم إنتاجه في الغرب الذي يرى على عاتقه مهمة “تحضير العالم”2.

لا يعني هذا بأي حال من الأحوال بأن الانعتاق الجنسي غير ممكن محلياً في العالم العربي أو أنه يحيل بالضرورة إلى فعل استعماري بالمطلق وأن المجتمع الكويري سيبقى حبيس سرديتين أولاهما سردية مجتمع أبوي وسلطة محلية يعملان بكامل آلياتهما -من ضمنها خصوصية المجتمع العربي كأداة قمع- لنزع شرعيته وآدميته بل والمطالبة بقتل أفراده أحياناً، وثانيهما سردية “مجتمع دولي” تعمل على تطويع مفرداته وأساليب حياته مستخدمة إياه لتمكين تصورات عنصرية واستعلائية على المجتمع المحلي بأكمله. بل يدفعنا إلى سؤال لا بد من طرحه، هل يمكن للمنظمات غير الحكومية والمعتمدة كلياً على التمويل الغربي أن تكون الحامل الاجتماعي لهذا الانعتاق؟ وما علاقة هذه المنظمات بإنتاج خطاب متماهي مع الهيمنة الغربية ويسعى لتأبيدها؟

وبرغم أن كلتا السرديتين تبدوان على طرفي حدوة حصان، فإن طرفي الحدوة أكثر ما تكون اقتراباً من بعضها البعض. فالحقيقة أنه لا يمكن أن تعيش إحداهما إلا بوجود الأخرى. تلتقي السرديتان في إنكار الوجود الكويري في المجتمعات العربية بأنماط معيشته ومفرداته الذاتية. نذكر هنا للاستدلال، أن ناشطة كويرية أوروبية أخبرتنا في جلسة خاصة أنه وفي كل العالم، فإن من لم يتابع برنامج الغناء الأوروبي “يوروفيجن” ليس كويرياً بما فيه الكفاية. توقفنا بذهول عند كلماتها، فحتى تلك اللحظة لم نكن والكثير من معارفنا في المجتمع الكويري في سوريا قد سمعنا بهذه المسابقات إطلاقاً. تحيل القضية هنا إلى مجتمع كويري غربي يحاول أن يفرض معاييره وأنماط وجوده واحتفالاته وطقوسه على أنها أنماط حياة معولمة، وتصبح المنظمات الدولية منها وفروعها المحلية “حصان طروادة” للهيمنة الغربية كما يصفها وليام جلين رايت. تهمل تلك النظرة الاستعمارية كل التاريخ والتجربة الكويرية في البلدان خارج المركز الغربي. ويعرف كثر من المنشغلين في قضايا التحرر الجنسي في العالم العربي اليوم عن حراك شارع كريستوفر ومسيرات الفخر في باريس وأمستردام وبرلين والضمائر المستخدمة لمخاطبة الأشخاص بشكل دقيق، بينما تكاد المعرفة تنعدم عن تاريخ وعمق الحياة الكويرية في الشوارع الخلفية لدمشق والقاهرة والرياض رغم ثراء تلك التجربة.

الدخول إلى الجو
من بين الاصطلاحات الآنفة الذكر التي أدخلت خلال الانعطافة، والتي تم تداولها بالإنجليزية كما تم تعريبها بشكل مقتضب جداً كان الخروج من الخزانة وهو تركيب لغوي غريب ركيك ولا ينطوي على أي مدلولات ثقافية في اللغة العربية، حيث تعود أصوله إلى حفلات الديبوتان وخروج الفتيات البالغات إلى العلن لدى الأرستقراطية الفرنسية في سالف العصر والزمان، ويقابله في العربية الخروج من القوقعة أو الشرنقة. يتعدى الخلاف بين الخزانة والقوقعة أو الشرنقة كونه خلافا بلاغياً، هو خلاف خطابي يتجاوز المحكي ليتماهى في طيات “غير المحكي” مع ثقافة واردة مستعلية عموماً على الثقافة المحكية في محاولة رديئة للتسامي الطبقي وانغماساً في استيراد الهيمنة الغربية ومفرداتها. بهذا تشير تلك الانعطافة إلى دور متعاظم تلعبه المنظمات الدولية حكوميةً كانت أو غير حكومية في تمويل الحراك الكويري الناشيء والتحكم بمفرداته ولغته، حيث تحيلنا العديد من الدراسات والأبحاث إلى الدور الذي تلعبه تلك المنظمات بكونها حصان طروادة للهيمنة الغربية ومحاولة للسيطرة على الحراكات المختلفة ومآلاتها في دول “العالم الثالث”3. يروي مقال موسى الشديدي المشار إليه على هامش هذه المقالة بأن العدسة الاستعمارية الغربية تروج لمعيارية جديدة ترى بأنها الوحيدة القادرة على تقييم “صحة” وأداء المجتمعات الكويرية في كل أصقاع العالم.

عمل فني من عمر: الهيجرا، تيشرت ب49 دولار
من كل التحولات التي نعيشها، نستبدل لباسا بلباس جمعياتي رأسمالي يتصنع بالجملة لا علاقة له بذات يدعي أنه يمثلها ويعبر عنها

الصورة المميزة: بوست كارد من حملة صليبية كويرية
،بطاقة بريدية تظهر واقع مخالف للصور الكلاسيكية النمطية للجمل والصحراء والمعمار. في السعي وراء عالم جديد
يجد المسجد الذي يزوره السياح نفسه مستهدفا، من أجل الدولار الذي يرقد تحته

تعود بنا الذاكرة إلى دمشق في حوالي العام 2007، كانت تلك المرة الأولى التي خرجت فيها من القوقعة، وجدت نفسي في مقهى أخبرني صديقي حينها إنه مقهى لل “جو” أو “السوسايتي”، كانت تلك المفردات هي المتفق عليها في حينها لتوصيف مجتمع الذكور المثليين، في ذلك المقهى أطلقت علي “ماما نور” لقب “هند”، ومن خلال طقس يشبه الانتماء إلى جماعة مقدسة، تم تعميدي ك”بنت” جديدة لماما نور، تعرفت على “أخواتي” في “الجو”. من المضحك تماماً أني لم ألتق بتلك الأم بعد تلك الليلة، ولكنها ستبقى ماما. هي عائلة طوعية انتميت لها عبر طقس هو خليط من القداسة والمجون. فتحت لي بعدها بوابات لم أكن أعرفها، تطل على عالم من الانغماس في اللذة و”العهر”، من التكاتف والتضامن، هو “السوسايتي” وحفلاته الماجنة والحمام ومقهى الكرنك والزاوية البعيدة في مقهى الحجاز وحديقة القشلة وحديقة الفور سيزن و”قشط السترايت”4 كما كان يلقب. كان هناك عالم كامل يعيش كما يحلو له.

تلك سردية تعني ما هو أبعد بكثير من مجرد حفلات وصخب لمجتمع مرح وماجن. هي سردية وجود هذا العالم وتمكنه من خلق حياة ومفردات لا تعرفها النظرة الاستعمارية وتخلت عنها المنظمات التي مولتها تلك النظرة فجاءت كالنمل ساعية لاحتكار تمثيله وفرض أطروحات غربية استعراضية بمجملها على أفراده ونماذج تواصله. تزداد تلك الاستعراضية بجاحةً عند رفع بعض السفارات المتورطة بالدم العربي في العراق وفلسطين وليبيا وسوريا وغيرها لعلم الرينبو سنوياً، فمع كل ما تمثله تلك السفارات في الوعي الجمعي العربي، لا يعدو ذلك الاستعراض السنوي عن كونه تعزيزاً لمقولات “العمالة” و”التبعية” التي سيدفع ثمنها كوير لا يشعرون بأي صلة بالعلم أساساً، أشخاص لا يشعرون بالانتماء إلى كل تلك الحياة “المدنية” أو المنظمات بفسادها وارتهانها وبجاحتها في السعي لاحتكار تمثيل المجتمع الكويري وتهافتها للحصول على تمويل سنوي من تلك السفارات.

التمويل والتعالي على المحلي
وبرغم شدة أهمية العمل من أجل التحرر الكويري في المنطقة العربية، فإن الكثير من الإشكاليات ستواجهنا فيما لو سلمنا دفة القيادة للمنظمات ولآليات التمويل. يقول دايفيد كورتن في كتابه بلوغ القرن الواحد والعشرين “الطريقة الأكثر نجاحاً في قتل حركة ما، هي إغراقها بالمال”5، فناهيك عن مدى الفساد المرتبط والمتعلق بتلك المنظمات، فإنها ومع مرور الزمن، تحتكر الخطاب وتوجهه حيثما أرادت. فكما يقول رالف كرامر “إذا وضعت يدك في جيب شخص ما، فعليك أن تتحرك كما يتحرك”6. وعندما نسقط تلك المقولة على حال الحراك الكويري في المنطقة العربية اليوم، فإن هذه “الحركة” في وضعها الحالي، لا يبدو أنها قادرة على تجاوز حدود المشاركة في مؤتمرات دولية وكتابة تقارير “أشبه بالاستخباراتية” لمراكز التمويل الدولي وتقديم ذلك كله على أنه نشاط ثوري.

بالإضافة إلى ذلك، تحدثنا نور أبو عصب في ورقة بحثية مشتركة مع رولا الصغير بعنوان “الناشطية واقتصاد الضحية”7 بأن من أكثر إشكاليات تقننة الحراك الكويري في المنطقة العربية هو اعتمادها الكامل على التمويل الغربي بالإضافة إلى خلق نشاطٍ كاملٍ معتمد كلياً على سياسات الهوية والسياقات الفردانية التي يتم الترويج لها كنجاح. نذكر أن ناشطاً كويرياً “ان جي أوزياً” أخبرنا مع بدء موجات النزوح واللجوء السوري، أنه وهب حياته الخاصة لقضية تحرر “مجتمع الميم”، ففي آخر سنتين، يفتخر الناشط بإجهاده من أنه لم يمض شهراً متواصلاً في بلد واحد، بل كان يتنقل شهرياً من بلد إلى آخر مشاركاً في العديد من المؤتمرات والورشات التدريبية الدولية لدعم المجتمع الكويري مثله كمثل باقي ناشطي المطارات. لم يخبرنا الصديق إطلاقاً عن آليات دعم مجتمع هو بالكاد يعرف شيئاً عن أنماط حياته، قابعاً في الغرف المترفة في فنادق النجوم الخمسة. ساهمت المنظمات بالفعل في خلق الكثير من الصراعات التي نشبت بين النشطاء على خلفية قضايا التمويل وساهمت بتفكيك النسيج الاجتماعي والتضامن ما بين الكوير واستبدلت المودة بالحقد ففضح أحدهم الآخر و”شمسه”، ووصل في بعض المرات حد الاستقواء بأجهزة الدولة والإبلاغ عن بعض أماكن التجمع الخاصة كما أخبرنا صديق راجياً منا عدم ذكر التفاصيل.وبالإضافة إلى ذلك، فإن من أهم تأثيرات المنظمات على الحراك الكويري وأي حراك في الحقيقة هو ميلها الحدي إلى نزع السياسة عن ميدان عملها باعتمادها “أساليب تمكين” تعزز من قصص النجاح الفردية أو تعزل قضايا التحرر الكويري عن الإطار الاجتماعي العام، يخبرنا صديق وهو أستاذ في مدرسة في قرية سورية نائية بأن ناشطاً كويريا كان يجري دراسة عن واقع الطلبة الكوير في المدارس العربية لصالح إحدى المنظمات الممولة غربياً، وفي إطار البحث سأل الناشط صديقنا عن الجهود التي يبذلها المعالج النفسي في المدرسة لدعم التلاميذ الكوير في مدرسة القرية، هل هناك أشد قوقعةً ممن يسأل مدرساً في سوريا البعث سؤالاً كهذا؟

من الأمثلة العديدة على اعتماد المنظمات آليات عمل تسعى لتقديم قصص نجاح فردانية ومنعزلة عن السياق، فكثر في المجتمع الكويري أو حتى الغيري يذكرون سوزي البيروتية، سوزي -والتي أذكر أنها في أول لقاء إعلامي لها كانت تعرف عن نفسها بأنها “شگر“- كانت تجوب شوارع بيروت يومياً سعياً وراء لقمة العيش، رحلت سوزي عن عالمنا مشردة وبحالة من الفقر المدقع. وإن كان كل نشطاء بيروت قد تاجروا باسم سوزي مرات لا تحصى في سياق التقديم لقصص “نجاح” فردية، إلا أن كل الجمعيات المهتمة بحقوق المجتمع الكويري في لبنان وبرغم أن خزائنها تغلق على الملايين يومياً، فإنها لم تسع لأن تؤمن لسوزي حياة كريمة ومماتاً هادئاً، برغم أنها كانت رمزاً وأيقونة تجسد معاناة المجتمع الكويري في المنطقة، ولم تحترم حتى الهوية التي عرفت بها سوزي عن نفسها بل حولتها من “شگر” إلى “ترانس-متحولة”، مستسهلة بذلك تبني قوالب غربية للهويات الجندرية ليس لها أي سياق محلي. ليس الخلاف بين “ترانس” و”شگر” خلافاً بلاغياً فحسب، فقد تحولت تلك المنظمات وبشكل عضوي عبر التمويل أحياناً وعبر الدورات والمخيمات التدريبية التي يحضرها موظفوها إلى ببغاء يردد دوغما الممول الغربي وتعريفاته دونما أدنى إهتمام بالسياق المحلي، فبدلاً من البحث في هوية “الشگر” نسف الخطاب المنظماتي كل تلك التجربة المعاشة مستبدلاً إياها بما يرضي “الدونر-الممول” ويسهل عليه فهمه.

عمل فني من عمر: وداعًا سوزي، تغطية مباشرة من المطار
في المطار، يتداعى الزمن والجغرافيا عندما يصبح الخلاص الفردي لا حدثًا بل حلقة لا تنتهي من الخداع

المحلي كمنطلق لا كنهاية
نستحضر هنا شخصية “آلمى” وهو إسم وهمي لإنسانة ذات صيت ذائع في مدينتنا، لم أكن قد بلغت من العمر ست سنوات عندما التقيتُ بها للمرة الأولى، كانت جالسة كـ “باشا” أو كـ “معلمة” على طاولة مقهى تمتلكه وتديره، كان وجودها أخاذا بحيث لم أتمكن من إزاحة نظري عن ذلك الوجود لثوانٍ طويلة، سألت جدتي “تيتا مين هيدي، شو هيدي؟”، تجيبني جدتي إنها ” شگر” -تلفظ الكاف مفخمة- لا ذكر ولا أنثى، وتنهاني عن التحديق بها، فإن هي غضبت مني، فالله قد يغضب. تبقى كلمات جدتي بعد رحيلها الموجع. لا أعلم ولا تعلم جدتي إن كانت كلماتها قد تتفق مع أي دين أو طائفة على الإطلاق، ولكنها تؤمن بأن شخصية “الشگر” مباركة من الله. لاحقاً سأعلم أن “آلمى” لم ترى نفسها ولم تكن تصر على أن يخاطبها الناس على أنها ذكراً أو على أنها أنثى، كانت تجيب المتحدثين كيفما تحدثوا. يحيلني نهي جدتي لي على أن شخصية “الشگر” قد نحتت لنفسها مكاناً تصالحياً ما في المخيلة الشعبية عماده قائم في فعل البركة الإلهية.

تمر سنوات طويلة قبل أن يجرفني الحديث مع صديقة مهتمة بدراسات الجندر تعمل في دوائر المنظمات الممولة غربياً فأسألها عما لو كانت تعلم معنى كلمة “شگر”، تجيب: هي كلمة سوقية لتوصيف الترانس أليس كذلك؟ خلق جوابها في مخيلتي برزخاً مظلماً فيه من القطيعة مع تاريخ بأكمله ما فيه من الاستعلاء الطبقي والغربي ما فيه من أشياء أخرى. “آلمى” ليست ترانس ولأن آلمى رحلت عن الحياة قبل اجتياح المنظمات، فعلى عكس سوزي، لربما رحلت دون أن تسمع بالكلمة، فإن كانت الهوية الاجتماعية -الجندر- بناءً اجتماعياً، فإن هويتها هي نتاج احتكاكٍ مكثف مع تجربة المنطقة ومجتمعها وتراثها في زمن سابق للعولمة ولذلك فهي ” شگر” وليست “ترانس”.

تلك القوالب المستوردة برمتها من سياقات غربية والمستخدمة من شريحة اجتماعية محلية لها ارتباطها المتين مع تلك السياقات، قد لا تعدو عن كونها غباراً على هامش المجتمع الكويري العربي الأكثر تعقيداً وتنوعاً من أن تحيط به قوالب مستوردة. كلمة ترانس أو دراغ كوين قد لا تعني شيئاً للراقص الإسكندراني حاتم8 والذي يتربع على عرش الرقص الشرقي في شرم الشيخ، هو والعشرات غيره ممن يمتلكون أو تمتلكن هويات اجتماعية وجنسية لا يمكن للتوصيفات الغربية حصرها أو استيعابها، مع ذلك هم يرقصون/ن ويعهد لهم/ن بالرقص في الأعراس والحفلات الشعبية بما يوحي أو يحيل إلى استنباط آلية تعايش اجتماعي ما، حفرتها أجيال على مدى عقود، ونسفتها بل وحقرتها نخبة المنظمات الممولة عبر سنوات قليلة.

الابستمولوجيا الغربية كمعيار: إله المنظمات الجديد
ما نرويه هنا ليس حكراً أو تمايزاً ثقافياً للمجتمع الكويري العربي، ففي كل جغرافية ثقافية على امتداد العالم، هناك مجتمع عاش حياته الجنسية غير النمطية وطور ثقافته الخاصة ومفردات تعايشه ضمن بيئته. يخبرنا صديق من شبه القارة الهندية عن مجتمع الهيجرا كما سماه وحالة التعايش التي شكلوها لأنفسهم/ن في المجتمع الهندي، هوية اجتماعية أصلت لذاتها عبر قرونٍ طويلة في بيئتها، وجودها في الأماكن يجلب البركة الإلهية كما أخبرنا. يقول صديقنا “لا تحل البركة بحفل زفاف أو محلٍ تجاري أو منزل جديد إلا إذا غنى مجتمع الهيجرا ترانيمه في المكان”.

أذكر خلال زيارتي للهند لحظة كنت فيها داخل عربة توك توك على إشارة مرور في أحد شوارع نيودلهي المزدحمة، اقتربت مني هيجرا بوجهها المحبب، طلبت مني بعض النقود فناولتها، جلست تقرأ على رأسي تعاويذاً قال لي سائق العربة بأنها نوع من البركة لا يقدمه غير الهيجرا. لفت نظري ردة فعل سائق التوك توك حينما حاولت الهيجرا التودد إليه ولمس يده، أبعد يدها بلطف مع ضحكة خفيفة، وعندما شاهد تعجبي أجاب: هو عرض إما أن أقبله أو أرفضه، ولكل ملذاته. لا تنسجم مشاهداتي في الهند مع تعريفاتنا المعولمة للتحرش، لو أن الهيجرا لمست يد أي سائق تكسي في مكان أخر في الغرب مثلاً، لأعتُبر ذلك تحرشاً ولعله كذلك، ولكن ما المحددات؟ وهل هي عابرة للأجناس والأقوام والهويات والأفراد؟ لا يعتبر ما فعلته الهيجرا تحرشاً في نيودلهي كما يخبرني سائق التوكتوك. فلكل مجتمع مفرداته الاجتماعية والجنسية الخاصة، بينما تقدم التصورات الغربية والتي تنسخها لنا المنظمات الكويرية العربية يومياً إجابةً واحدةً تحاول نشرها على أنها قابلة للاعتماد في كل زمان ومكان، وهذا ما لا يعدو عن كونه تعميمياً استعمارياً فجاً.

نذكر في هذا السياق سؤال صديقة فرنسية لي في جلسة خاصة عن الهوية الجنسية لأبي النواس، كانت تشعر وكأنها لورنس العرب الجديد وكأنما قد قامت بفتح معرفي عجز عنه العرب قاطبة حين أخبرتني أنها ترى أن أبي نواس مزدوج الميول الجنسية أو bisexual، تقول أنها فوجئت لعدم وجود دراسات كافية تؤكد ما توصلت إليه عبر قراءة أشعاره -رغم وجودها-. والحقيقة أن ما فعلته صديقتنا قد لا يعدو عن كونه رأياً شخصياً إذا ما عزل عن سياقٍ كاملٍ مؤسساتي ومنظماتي يمارس نفس الإسقاط القهري لكل ما تم بلورته في الغرب من هويات ودراسات اجتماعية على أشخاص وتراكيب نشأت في أماكن بعيدة وأزمنة مختلفة.

لم تبالي صديقتنا كما لا تبالي المنظمات بما هو محلي، بما هو فردي أيضاً، ليس لأبي نواس وللملايين غيره الحق في توصيف أنفسهم في زمن المركزية الغربية وتصديرها محلياً عبر “حقائق مطلقة” تأتي من الغرب مع حقائب مليئة بالدولارات. أبو نواس عاش حياته طولاً وعرضاً لم يقل أنه “مزدوج الميول الجنسية” ولا تعني هذه المفردات له ولقراءه الكثير. لم تشغل تلك الإسقاطات الغربية على هوياتنا وحاضرنا وماضينا بال أحدٍ خارج دوائر المنظمات الممولة ونشطاء المطارات و”النخبة” المحلية التي عادة ما تكون الأسرع في التهافت نحو كل ما هو غربي محبذة إياه على كل ما هو محلي.

وفي النهاية، فإن ما تم سرده حتى الآن رغم كبر حجمه، إلا أنه وبكل تأكيد لا يعدو عن كونه محاولات أولية في تحقيق إضافة نقدية في مسار انعطافة حددنا معطياتها في بداية هذا المقال، والذي نراه خطوة نحو الأمام في تحرير النقاش حول قضايا التحرر الجنسي من ثقل الهيمنة الغربية، التي تحاول اخضاع مجتمعنا بكامل مكونات حياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية و حتى الجنسية لمحددات وأطر تفرضها على الجميع. يرى المفكر أنطونيو جرامشي أنه لاستدامة حكم طبقة ما، فإنه من الضروري لها أن تحول خطابها خطاباً سائداً في المجتمع، وبناء على ذلك فإن التصدي لهيمنة الإبستمولوجيا الغربية ضرورة في ظل محاولاتها الشرسة لنشر ذاتها كونياً، عليه فأن البحث في مكونات الذات وتطورها عبر التاريخ هو كما نراه جزء من النضال ضد ما يقدم على أنه نهاية التاريخ، سيطرة الغرب على العالم ومقدراته. ونرى في المنظمات الدولية كما أسلفنا، خير حصان طروادة لا لتصدير الهيمنة الغربية فحسب، بل لتفتيت التعاضد والتضامن بين أبناء وبنات مجتمعاتنا وهي كل ما يمكن التعويل عليه في ظل هجمة استعمارية شرسة.

  1. نجد أن من الملح التعريج على مقالة بعنوان عولمة الخزانة لموسى الشديدي، حيث يروى الكاتب أنه ومن خلال لقاءات عديدة مع أفراد من المجتمع الكويري، فإن “عددااً كبيراً منهم لم يفهم معنى عبارة الخروج من الخزانة Coming out of the closet حتى أو السماع بها من قبل”.
  2. Jürgen Osterhammel, “Europe, the ‘West’ and the Civilizing Mission,” The German Historical Institute, London, 2005.
  3. Alexandra Ana, The NGOization of social movements in neoliberal times: Contemporary feminisms in Romania and Belgium, Palgrave Macmillan, 2024.; Arundhati Roy, The End of Imagination, Haymarket Books, 2016.; Tina Wallace, “NGO dilemmas: Trojan horses for global neoliberalism?,” Socialist Reader 40, 2004.; Glen Wright, “NGOs and Western hegemony: Causes for concern and ideas for change,” Development in Practice 22, no. 3, 2012: 123-134.
  4. أن يغري أحد الذكور المثليين ذكراً ذو ميول غيرية ليمارسا الجنس.
  5. David C. Korten,  Getting to the 21st Century: Voluntary Action and the Global Agenda,  Kumrian Press, 1990.
  6. Ralph M. Kramer and Harold L. Wilensky, Voluntary Agencies in the Welfare State. University of California Press, 2019[1981].
  7. Ralph M. Kramer and Harold L. Wilensky, Voluntary Agencies in the Welfare State. University of California Press, 2019[1981].
  8. حاتم حمدي