بقلم أحمد دهبي
العمل الفني: سمر زريق
هذا المقال من عدد الذبذبات
حينها أدركت أنني وكل أصدقائي نتجنب العربية ونتحول إلى الإنجليزية بشكل آلي عند الحديث عن الحميمية والجنس. وتساءلت، لماذا نستخدم كلمة “فاك” بالإنجليزية للتعبيرعن فعل الجنس ولا نستخدم كلمة “نيك” العربية رغم تشابههما في المعنى والسياق والثقل اللفظي في اللغتين؟
جربت بعدها أن أتحدث بالعربية في الجنس، وحالما تخطيت عتبة الخجل اكتشفت عالما جديدا من اللذة، وكأن الجنس قبل أن أحرر لغتي الأم كان مجرد نشوة لا تتخطى سطح الجلد، ثم تحول بعدها إلى رعشة قوية، كتيار كهربائي يتغلغل في كامل جسدي.
لماذا أضعت إحدى عشر عامًا من الجنس اختبر رعشات سطحية؟ وهل أنا وحدي من اختبر الفرق على هاتين الشاكلتين؟ كانت هذه الأسئلة دافعا لأسأل الناس من حولي إذا ما كانوا يتحدثون في الجنس أم يفضلون المتعة الصامتة، وما هي اللغة التي يستخدمونها، ولماذا؟1
هل اللغة العربية فقيرة جنسيًأ؟
يذهب البعض إلى أن اللغة العربية لا تملك الحصيلة اللغوية اللازمة للتعبير في السياقات الجنسية، كما يقول أحد المشاركين “ما فيشي كلام سكسي في العربي”، ويسأل الأخر باللغة الإنجليزية “هل تحتوي اللغة العربية على كلمات تعبر عن هذه الأشياء أصلًا؟”. ولكن هل هذا صحيح؟

عمل فني: سمر زريق
إن أقدم النصوص العربية كانت شعرًا رقيقًا يكشف نظرة مرهفة للعالم، ويعبر عن الإنسان بحصيلة لغوية شديدة الاتساع والليونة، منحت اللغة قدرة مبهرة على التشكل في أي سياق إنساني، والحميمية الجنسية ليست استثناءًا.
تذخر حضارة العرب بمؤلفات عديدة اختصت بشرح الجنس وملذاته، وفيها نجد وصفًا دقيقًا للأوضاع والتوجهات والتفضيلات الجنسية، وكيفية الوصول للنشوة؛ منها أشعار المجون للشاعر العباسي أبو نواس (الأحواز 762م – بغداد 813م)، وكتب الفقيه والمؤرخ والشاعر الإمام جلال الدين السيوطي (القاهرة 1445م – القاهرة 1505م)، مثل كتاب “نواضر الأيك في معرفة النيك”، الذي يسمي فيه الأعضاء الجنسية للذكر والأنثى ويصف العملية الجنسية وأوضاعها صراحةً، مستخدمًا في ذلك لغة عامية دارجة من القرن الخامس عشر الميلادي.
أما أحمد بن سليمان الشهير بـ ابن كمال باشا (إدرنة 1468م – اسطنبول 1536م)، فكتب موسوعته الجنسية الأشهر “رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه” بإشارة من السلطان سليم الأول، حيث يصف في 30 فصلًا أداب النكاح.
ويقول ابن كمال باشا في أحد نصوص كتابه (2) واصفًا نكاحًا بين حبيبين التقيا بعد فراق “ثم عاودتها بعد ذلك بأيام فبركت، وقالت لى أكثر الريق وبالغ فى الإيلاج، وانظر إلى ماتعمل، وعليك بالزهر الصلب، والدفع الشديد ثم بركت وتفجعت وريقته وأولجته فى استها فكأنه وقع فى حريق، وخرج مخضوباً إلى أصله”.
ويصف الإمام جلال الدين السيوطي، في كتابه “نواضر الأيك”2 الأفعال الجنسية، فيقول “أما الرهز: ففيه تهيج الغلمة من الرجل، ونشاط له، وشحذ لقلبه، وإثارة لشهوته، وجلب للنيك، واقتياد له، ووصل إلى قضاء النهمة، كما أن السفن تسرع الجري في الأنهار، وتقطع الطريق البعيدة بشدة الخوف، كذلك الأير: يسرع عمله بشدة الرهز والخفض والسحق واللمس، والعصر”.
ويصف النيك بعدها مباشرةً “النيك: يطيب بالسل، والغمز، وكثر الرفع، والخفض، والهمهمة، والنصب، والبسط، والقبض والتقديم، والتأخير، والنخير، والحضب، والشخير، والصهيل، والحمحمة، ومداومة الصفق وجودة السحق، والتقريب بالأير في الحر والتصعيد”.
نقلت هذه الكتب قصص عامة الناس كما نقلت قصص القصور، ما يعني أن اللغة العربية وفرت مساحة تعبير جنسية واسعة وغنية.
إدخال الأير في الفرج أو الدبر | الإِيلاج |
القذف القوي | الزَهَر الصلب |
بللته بلعابها | رَيَقَته |
حلقة الدبر (الشرج) | است |
المقصود قذف ماءه | مَخْضوبًا إلى أصله |
الحركة والاهتزاز، ويقصد حركة الأير في النيك | الرَّهْزُ |
هيجان الشهوة | الغُلمة |
الرغبة | النَهمة |
وبعد أكثر من ألف عام، نجد أن اللهجات العربية مازالت تملك نفس الخصائص، كما يظهر في مقاطع الفيديو الجنسية التي يصنعها العرب. تجدهم يعبرون بلهجاتهم العربية المختلفة بجرأة عن الحميمية الجنسية. بمعنى أنها لا تفتقر إلى المساحة التعبيرية اللازمة، فما الذي يدفع البعض إلى استخدام لغات أجنبية في الجنس بدلا عنها؟
يرى البعض أن اللغات الأجنبية أكثر حساسية جنسيا، كما يقول أحد المشاركين “بحسها شيك (أنيقة) أكثر لما بتتقال بلغة تانية”، ويرى البعض الآخر أن اللغة العربية دنيئة إذ يقول أحدهم “بحس العربي شوي سوقي”، ويقول آخر “علشان دايما الكلام العربي بحس أنه بيعبر بطريقة مقرفة شوية”.
بينما يقول صديق أنه يستخدم اللغة الأجنبية مع أي شخص غريب “مش عايزه يحطك في مكانه إجتماعية معينة، لأن غالباً إللي بيتكلموا عربي على جرايندر مثلاً بيكون من الطبقة اللي بيقول على نفسه ‘سالب مش بوتوم’ و’موجب مش توب'”.

عمل فني: سمر زريق
يرى محمد صقر، باحث في العلوم الاجتماعية في الجامعة الألمانية بالقاهرة، أن الحيز الاجتماعي السياسي يؤثر على الإنسان بشكلِ كبير حتى في أوقات الخلوة (الجنس)، حيث تقدم الدولة الحديثة للإنسان نموذجين أيديولوجيين ليختار بينهما، أحدهما هو النموذج العربي الذي يرتبط بالتأخر والفقر والقهر، والنموذج الغربي الذي يرتبط بصور الحداثة والانفتاح. وحالما يختار الإنسان أحدهما ينطبق هذا الاختيار آليًا على كل جوانب حياته حتى في “غرفة نومه” كما يقول صقر.
ويشير صقر إلى أن اختيار اللغة العربية في الجنس يأتي أحيانًا نتيجة التأثر بهذين النموذجين الأيديولوجيين، فالبعض كما يقول يستخدم اللغة العربية وقت الخلوة لأنه يرى فيها “دليل على الفحولة، فهي تظهره كشخص مفتول وفيه همجية، وهو ما يرتبط بأيديولوجية مجتمعه وخلفيته الثقافية”.
ويضيف “مش بيبص للغة هنا على أنها لغة جميلة فيها شعر وغزل، ولكن بيبص لها على أنها لغة الموالد الشعبية والكلام الأبيح (الفج)، وبيتبع هذا السياق علشان ينبسط”. وأخيرا يقول إن هذه الوقائع تمثل “أغلفة حضارية وأيديولوجية تعكس شكل حضارتنا [العربية] المعاصرة”.
التكوين النفسي الجنسي بين لغتين
تؤكد مدربة الجنس زينة ماسلا على كلام صقر، إذ تقول أن بعض عملائها يشعرون بمتعة أكبر عند استخدام اللغة العربية واللهجات المحلية لأنها تعطيهم إحساسًا بدخول منطقة ممنوعة ومحرمة. كما أخبرتني أن كثيرا من عملائها يشعرون بالخجل من استخدام العربية في الجنس، لأنهم تعلموا منذ الصغر عدم التفوه بها في وصف أعضاءهم الجنسية، “نعلّم الصغار قول فوفو وبوبو وسوسو بدلًا من فرج وقضيب، وبالتالي نعلمهم الخزي من اللفظ الصريح”.
بحسب ماسلا تصبح اللغة الصريحة في التعبير عن الجنس مرتبطة في وعينا بالعيب، وبالتالي نلتف حولها ونستخدم مختلف الألفاظ غير الصريحة لنعبر عن أفكارنا الإيروتيكية، وربما نختار استخدام لغة غريبة تمامًا لنتجنب مواجهة هذا العيب.
وفي هذا السياق يشير بعض المشاركين في الاستفتاء إلى أن استخدامهم الإنجليزية يرجع إلى شعورهم بالخجل من استخدام اللغة العربية التي ترتبط في وعيهم بالكبت الجنسي، في حين ترتبط الإنجليزية بالجنس كما عرفوه في صورته الحميمية من خلال السينما والدراما والإباحيات الأجنبية.
يقول أحدهم “ربطنا اللغة العربية بوصم الجنس نتيجة التربية، وربطناه بالمتعة والحميمية بلغة أجنبية نتيجة القوة الناعمة [للغات الأجنبية] “. ويقول آخر”اتعودنا نسمع الكلام الإنجلش مع مشاهد حلوة خلتنا نربط الكلام ده بالمناظر اللي إحنا حسينا بيها وحبيناها في الأفلام الرومانسية الإنجلش”.
وتؤكد شهادة ثالثة “لغتنا هي اللي ربينا عليها وفيها فكرة العيب والحلال والحرام، وفي عقلنا اللاواعي بتكون متواجدة بقوة، وأي ذكر لها بيكون مقزز بعكس اللغة الأجنبية اللي قدرت إنها تطبع وتخلي الألفاظ تبعها عادية سواء في الأفلام أو غيرها وخاصة الإباحية”.
يعلق الدكتور أحمد فاروق استشاري الصحة النفسية في جامعة عين شمس بالقاهرة، “أن التربية في بيئاتنا الشرقية تقمع التعبير الجنسي بعنف شديد فيكبر الإنسان ويتكون وعيه على الشعور بالخجل والخزي من رغباته، ما يدفعه إلى استكشاف هذه الرغبات في الثقافات الأجنبية التي تحررها وتعبر عنها بأريحية”.
ويضيف “إن اللغة الأجنبية هي لغة ثانية يكتسبها الإنسان في وقت ما من حياته ولكنها ليست اللغة الأولى التي كونت أفكاره ومشاعره منذ الطفولة، وبالتالي تصبح شيئًا بعيدا عنه وكأنها قناع لغوي يلجأ إليه حين يحتاج إلى مواجهة أشياء دون أن يكشف ذاته بالكامل”.
أخيرًا قال بعض من شاركوا في الاستفتاء أنهم جربوا اللغة العربية في الجنس سواء من باب التجربة لذاتها أو من باب “التصالح مع الهوية المحلية” أو في إطار البحث عن ملذات في أماكن خفية، وكانت ثمار التجربة حلوة، ربما بسبب ما قاله دكتور فاروق حول الكشف الكامل للذات حينها.

عمل فني: سمر زريق
ماذا بعد؟
إن اختيار البعض للغات غير العربية في الجنس، بالرغم من أنهم نشأوا عليها ويفكرون ويتكلمون بها، هو نتيجة تشرب مجتمعاتنا العربية بأيديولوجيات سياسية أصبحت جزءا من تكويينا النفسي. لا لأن العربية تفتقد للقدرة على التعبير الجنسي.
تلك الأيديولوجيات التي أرغمت نفسها علينا بقوة الإمبريالية الغربية أصبحت تشاركنا أكثر لحظاتنا حميمية. ويبدو أن مجرد إعادة النظر في أبسط اختياراتنا اليومية قد ينتج عنه فهم جديد لواقعنا ولذاتنا.
ونحن هنا لا نريدك أن تراجع اختياراتك في الجنس بنظرة الصواب والخطأ، لأنه لا يوجد صواب وخطأ في الجنس، نحن فقط ندعوك إلى التجربة لأن الجنس بحر من الغرائب والخفايا. ربما تكتشف مغامرة جديدة في هذا البحر العجيب، ومن يدري، ولعل هذه المغامرة تغير من عالمك بالكامل، كما تغير عالمي وعالم أخرين، فتكتشف أشكالًا جديدة من اللذة لم تكن تعرف أنها ممكنة.