English

بقلم أحمد دهبي
بالتعاون بين سينما الحمراء ومجلة ماي كالي
“صور من الفيلم الوثائقي “الصلاة من أجل الأرماجدون
هذا المقال ملحق بعدد الذبذبات

في الثامن من أكتوبر 2023، بعد يوم واحد من أحداث طوفان الأقصى التي قادتها حركة حماس ضد مستوطنات غلاف غزة، عُرض  في الولايات المتحدة الأمريكية وثائقي بعنوان الصلاة من أجل الأرماجدون (حرب نهاية العالم) للمخرجة النرويجية تونجي حسين شي.

يكشف الوثائقي نشاط الكنيسة المعمدانية الأولى في ذات التأثير السياسي الكبير، في محاولة دفع العالم نحو الأرماجدون، كما ينبئ بها سفر الرؤيا في الكتاب المقدس، بهدف تحقيق العودة الثانية للمسيح من خلال دعم إسرائيل وتأجيج الصراع  في الشرق الأوسط.

سنناقش في هذا المقال علاقة إسرائيل بالكنيسة الإنجيلية التي قدمها الوثائقي، والتناقضات التي تحيط بها، كما سنلقي نظرة على تاريخ الصهيونية وانتهازيتها في التعاون مع أعداء اليهود ومختلف الأقليات المهمشة (المثليين والنساء) لتحقق حلم قيام واستمرار دولة إسرائيل. 

الصلاة لتعجيل حرب القيامة
يتناول الوثائقي معتقدات الكنيسة من عدة جوانب، عبر مقابلات مع أعضائها وتتبع نشاطاتهم، مبيننا تأثيرهم على السياسة الأمريكية.

من المقابلات البارزة في الوثائقي يأتي جاري بيرد، وهو إنجيلي متشدد يجول مع جماعته بين الولايات الأميريكية على الدراجات النارية للتبشير بالأرماجدون، (سبق ونقلوا دراجاتهم إلى إسرائيل، وطافوا الأرض المقدسة لدعم الاحتلال). يسلط الوثائقي الضوء أيضا على عدد من الأعضاء الكبار في الكنيسة، مثل القس روبرت جيفريز والقس جون هاييج، زعيم منظمة مواطنون متحدون من أجل إسرائيل. 

كما يظهر الوثائقي تأثير الكنيسة على الجيش الأمريكي، إذ تعمل كأيقونة سحرية تعيد الزمن إلى عصور الظلام، عبر وسم أسلحة الجيش بوسوم صليبية، وتعميد الجنود، وزراعة عقيدة أن الحروب الأمريكية هي حملات صليبية لنصرة كلمة الرب. وهو نفس الوصف الذي استخدمه الرئيس السابق جورج بوش الابن في وصفه لغزو العراق.

إضافة إلى دورهم داخل الكنيسة، يوضح الوثائقي دورهم في السياسة ويكشف عن دور قادة الكنيسة كمستشارين للبيت الأبيض، في دفع ترامب للاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل في 2017، ونقل السفارة الأمريكية إليها في 2018. تقول المخرجة “عندما وصل ترامب إلى السلطة أدركنا مدى أهمية الدور الذي لعبه جون هاييج ومنظمة (مواطنون متحدون من أجل إسرائيل)، والمتطرفين الإنجيليين، في دفعه إلى السلطة، إذ يؤمنون أنه أداة منحها لهم الرب لخدمة أهدافهم”. 

هذا الخطاب وتأثيره مرتبطان ارتباطا وثيقا بإسرائيل ويحملان هدفاً أساسيا خفيا. يتبنى المتطرفون الإنجيليون اعتقاد أن هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل الثالث سيؤدي إلى الحرب الأخيرة وعودة المسيح، ما يدفعهم لدعم إسرائيل لتحقيق النبوءة، معتقدين أن اليهود سيتحولون إلى المسيحية أو يبادون على يد جنود الرب (الإنجيليون المخلصون). بهذا تبدو دوافع الكنيسة التي يكشف عنها الوثائقي، وعلاقتها بالصراع في الشرق الأوسط، وكأنها نوع من نظريات المؤامرة، إلا أن تاريخ العلاقة بين الكنيسة الإنجيلية ونشأة إسرائيل تجعل من هذا الكشف أمرًا منطقيًا.  

المستعمرة الوحيدة
كانت فكرة تأسيس دولة قومية لليهود حلما تبنته جماعات البروتستانت الإنجيليين في القرن السابع عشر في إنجلترا، قبل أن يؤمن بها اليهود بوقت طويل. سعت تلك الجماعات إلى إقامة الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى، تحقيقًا لنبوءة إنجيلية تعجل بقدوم المسيح المخلص ونهاية الزمن، وسميت تلك الحركة ب”الـمسيحية الصهيونية”.  

أما الحركة الصهيونية اليهودية، فقد تأسست بعد قرنين على يد  ثيودور هرتزل، وهو يهودي نمساوي ملحد، كان في البداية متحمسا لفكرة إقامة وطن قومي لليهود في الأرجنتين بسبب مناخها المناسب وكونها “تشبه أوروبا كثيراً” ما يقلص فترة الاندماج، كما ذكر في مذكراته. لكن بعد ضغط دولي، اقتنع باختيار فلسطين، باعتبارها حصن “أوروبا في مواجهة آسيا وكموقع أمامي للحضارة الغربية في مواجهة البربرية، وعلينا كدولة طبيعية أن نبقى على اتصال بكل أوروبا التي سيكون من واجبها أن تضمن وجودنا”.
من ناحية أخرى، دعم وزير خارجية بريطانيا بلفور الحركة الصهيونية على الرغم من كرهه لليهود، ووجد فيها طريقة للتخلص من اليهود إلى خارج أوروبا، “مجهود جاد لتخفيف مأساة الحضارة الغربية القديمة، التي نشأت بسبب وجود كيان شاذ وعدواني من الصعب طرده أو امتصاصه (يقصد اليهود)” ما دفعه إلى تقديم وعد بمنح فلسطين للحركة الصهيونية عام 1917.

بذلك تزاوجت المصالح الاستعمارية الغربية مع المصالح المعادية لليهود مع المصالح الإنجيلية، في إنتاج هذه المستعمرة البيضاء عام 1948 في وقت كان فيه الاستعمار الأوروبي يلفظ أنفاسها الأخيرة.
في تسعينيات القرن العشرين، تعاونت إسرائيل مع توأمها الأيديولوجية في جنوب إفريقيا لقمع الثورة السوداء بقيادة زعيمها نيلسون مانديلا. الذي تمكن من إسقاط نظام الفصل العنصري لتبقى إسرائيل المثال الوحيد عليه في كوكب الأرض. 

الهوموفوبيا “الداعمة” للمثلية
استخدمت إسرائيل منذ 2010 الغسيل الوردي والأرجواني لتظهر “كواحة الديموقراطية” و”كجنة للمثليين والنساء” في أعين العالم، حيث البحر والجنس والمتعة في قلب الشرق الأوسط البربري. منطقة ترجم النساء وتشنق المثليين وتعدم المسيحين، كما قال بنيامين نتنياهو في خطابه للكونجرس الأميريكي عام 2011. كمحاولة للتغطية على جرائمها.

يسلط الوثائقي الضوء على التناسق والتحالف بين الكنيسة وإسرائيل، ويفضح النفاق حول حقوق المثليين والمرأة. حيث تحارب الكنيسة المعمدانية الأولى كل أطياف مجتمع الميم عين، وحق الإجهاض، والنسوية، فكلّه “رجس من عمل الشيطان يقود بلد الرب (أميريكا) إلى الهاوية” كما يدعي أعضاء الكنيسة.

(Jewish News Syndicate) يعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو القس هاييج أهم حلفائه الأمريكيين

في عام 2005، ادعى جون هاييج أن إعصار كاترينا كان عقاب الرب لنيو أورليانز لاستضافة فعالية لمجتمع الميم عين، وفي منشور على منصة إكس يقول إن الإجهاض أكثر مكائد الشيطان شرًا، وفي منشور أخر يقول “إن الزواج الوحيد الذي يعترف به الرب هو بين رجل وامرأة”. كما ادعى ذات مرة أن المسيح الدجال سيكون نصف يهودي ومثلي، وأن النساء خلقن للإنجاب فقط، وأن الكنيسة الكاثوليكية هي العاهرة العظيمة التي ذكرت في سفر الرؤيا، وأن اليهود يتحكمون في اقتصاد الولايات المتحدة، وأن المسلمين مأمورون بقتل كل اليهود والمسيحيين.

ويقول في كتابه “العد التنازلي للقدس: تحذير للعالم” أن الرب أرسل أدولف هتلر (الهجين اليهودي) كصياد ليضطهد يهود أوروبا ويقودهم إلى الأرض الموعودة من خلال الهولوكوست. فكما كانت نشأة إسرائيل حصيلة وعد رجل بريطاني معادٍ للسامية، ترتكن اليوم إلى دعم رجل أميريكي معادٍ للسامية أيضا.

أما القس روبرت جيفريز، فله عدد كبير من التصريحات شديدة المعاداة للمثليين، منها قوله: “إن ما يفعله (المثليون) قذارة. إنه شئ منحط لدرجة تفوق الوصف. وسلوكهم القذر يفسر سبب تعرضهم للأمراض أكثر من غيرهم.” 

كما ادعى أن دعم الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما لحقوق مجتمع الميم عين، يمهد الطريق لمنح المسيح الدجال السلطة، كذلك وصف الإسلام ذات مره أنه “دين شرير، شرير جدًا.”

وعلى الرغم من كل هذا يجتمع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالقس هاييج بشكل دوري لمناقشة نشاط منظمة “مواطنون متحدون من أجل إسرائيل”، ويعتبره أهم حلفائه الأمريكيين، كما ترسل إسرائيل الساسة والدبلوماسيين والإعلاميين لعقد الاجتماعات والمؤتمرات معه.

مفاهيم تحلق خارج الزمن وتناقض نفسها
إن هذه الآراء المتطرفة من كراهية المثليين والعابرين واليهود وغير البيض والنساء والمسلمين، والتي تتناقض مع كل شىء تدعي الولايات المتحدة، وربيبتها المدللة إسرائيل، دعمه من منطلق المبادئ الليبرالية الغربية، لا تمثل أراء هاييج وجيفريز وحدهما، ولكنها أيديولوجيات الكنيسة التي يقفا على رأسها. 

تشذ هذه الكنيسة تمامًا عن نسيج الزمن الحالي وكل ما يمثله من مبادىء وأفكار، وتشحذ كامل نفوذها للوصول إلى لحظة الحرب الأخيرة التي من شأنها أن تنهي هذا الزمن أو العصر البشري، ناشطةً داخل فقاعة منفصلة عن الواقع تبدو وكأنها قادمة من زمن آخر أو متجمدة فيه.

تدعم هذه الكنيسة إسرائيل بيقين لا يتزعزع لتكون أداتها التي تنهي بها الزمن، لأن إسرائيل مثلها كيان شاذ عن نسيج هذا الزمن، جوهره يتناقض تمامًا مع ظاهره، فهي تتمختر متوشحة بعلم مجتمع الميم، وتدعي أنها ملاذ يهود العالم، وواحة الديموقراطية الليبرالية، ولكن وجودها يعتمد في نفس الوقت على كنيسة مجنونة تعادي هذه المجموعات بكل قوتها، لماذا؟

لأن إسرائيل هي وليدة أيديولوجية انتهازية تنتشر كسرطان في كل الاتجاهات ودون اعتبار للنتائج. إنها مستعمرة استيطانية وظيفية تعمل بنظام فصل عنصري وترتكب جريمة الإبادة أمام أنظار العالم. كيان لا مثيل له في عالم اليوم إلا في  صفحات الماضي المأسوف عليه.