English

بقلم: سمسم
العمل الفني: لينا
هذا المقال ملحق بعدد الذبذبات

في الخامس عشر من أبريل 2023 اشتعل اقتتال مسلح في السودان بين المكونين العسكريين النظاميين في الدولة، قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية. شمل الاقتتال عددا من مدن السودان أهمها العاصمة الخرطوم ، وإقليم دارفور، وولاية الجزيرة، بعد احتقان سياسي طويل، وانسداد في الأفق أمام الجنرالين اللذين يطمح كلٌ منهما في الانفراد بالسلطة المطلقة. بلغت حصيلة القتلى في آخر تحديثٍ رسميّ 20 ألف قتيلا مدنيا بينما يقترح المراقبون أعدادا أعلى بكثير من هذا الرقم.1 كما أصبح السودان الدولة الأعلى عالميا لحالات النزوح، بما يفوق الثمانية مليون نازحاً داخلياً وثلاثة ملايين نازح عبروا الحدود إلى دول الجوار. وتشهد ولاية الجزيرة حالات النزوح الأكثر في الشهر الماضي وحتى الآن، حيث بلغ عدد النازحين من شرقي الولاية 119 ألف نازح.2 وبحسب سليمى إسحاق، مديرة الوحدة السودانية لمكافحة العنف ضد المرأة والطفل، بلغت الحالات الموثقة للاعتداءات الجنسية 309 حالة من بينها أطفال أصغرها طفلة في سن السادسة، وهذه الحالات مجرد غيض من فيض لما يحدث في الواقع.3

يتناول هذا المقال وضع الأقليات الجنسية في السودان قبل الحرب، والتغيرات في تعامل السلطات السياسية والعسكرية والمجتمعية معها خلال الحرب، وتوثيق تعرضها لتهديدات واعتداءات جنسية محتملة على يد الجهات المسلحة المتنازعة.

تنويه: في الحروب والنزاعات المسلحة لمختلف أسباب وقوعها تواجه الأقليات الجنسية/الجندرية خطرا متزايدا لجرائم الحرب، كالعنف الجسدي/الجنسي/النفسي والتعذيب والقتل. فتظل حبيسة غير مرئية لتحافظ على أمانها، ما يجعل هذه الانتهاكات عصيةً على الرصد والقياس.

وضع الأقليات قبل الحرب:
بصورة عامة، لم يكن السودان ملاذا آمنا للأقليات الجنسية/الجندرية، فقوانينه التي وضعها الاستعمار البريطاني، والتي تأثرت بالتشريعات الدينية بعد الاستقلال، تُجَرِم جميع السلوكيات التي يمكن تصنيفها داخل إطار المثلية الجنسية، بل وتُعاقب عليها. ففي القانون الجنائي السوداني4 توجد المادة 148 التي تُسمي المثلية بين الرجال (باللواط) وتتدرج العقوبة من السجن حتى القتل اعتمادا على تكرار الفعل. كذلك توجد المادتان 151 و 152 المتعلقتان بالأفعال الفاحشة والفاضحة لتجريم الأفعال الجنسية التي لا تصل للممارسة الجنسية الكاملة المغايرة والمثلية (بين النساء والرجال)، وتمنع ارتداء الأزياء التي لا تتوافق مع النوع الإجتماعي المُفترض بناءً على النوع الجنسي (التشبه بالرجال أو التشبه بالنساء كما يصفه القانون).

بجانب التجريم القانوني للمجتمع الكويري في السودان، هناك رفض مجتمعي واسع له. فالمثلية الجنسية من الوصمات الاجتماعية التي يصعب النقاش حولها. وتمارِس كل الفئات الاجتماعية في السودان الكراهية بوضوح ضد أفرادها، بشتى أشكال الانتهاكات اللفظية والجسدية والنفسية. وهذه الانتهاكات تتغذى على ذكورية المجتمع المصبوغة بالتشريعات الدينية التي تحرم حقوق الأقليات الجنسية. وما أحداث العنف التي وقعت عام 2020 في أسواق التعدين بمنطقة أبو حمد شمالي السودان والتي قُتِل على إثرها رجلٌ رجما بالحجارة وأُصيب آخرون بسبب قيامهم بحفل زواج مثلي (حسب تصريحات شرطة أبو حمد)،5 إلا مثالٌ صارخٌ على أن أرواح أفراد الأقليات الجنسية تُسلب بمُباركة المجتمع السوداني وتمر دون إدانة أو حتى استنكار قانوني. وسياسيا تم تجاهل قضية الأقليات الجنسية لأن تناولها خارج السياق الكاره لها انتحار سياسي. فالوصمة الفادحة التي تلازم القضية لن تثمر بمكاسب سياسية أو شعبية.

العنف ضد الأقليات الجنسية في الحرب:
من المنطقي أن يتحد المدنيون المتضررون من آثار الحروب والنزاعات المسلحة الكارثية، ملقين اختلافاتهم الفكرية والعقدية وكل أسباب الانقسام خلف ظهورهم. لكن وللأسف هذا التصور اليوتوبي لا ينطبق على الواقع في السودان، بالأخص فيما يتعلق بمجتمع الميم عين.

تشكل الوصمات المجتمعية المتعلقة بالاعتداء الجنسي (بالأخص للرجال) حاجزا كبيرا يحول دون تسجيل وتوثيق العديد منها، والأشد خطرا أنه يحول دون وصولهم للمساعدة الطبية الضرورية والأدوية الواقية من الأمراض المنقولة جنسيًا إن وُجِدت

إن تجييش وعسكرة المجتمعات في فترات النزاعات والحروب يُرسخ المفاهيم الذكورية، ويجعل المجتمعات أكثر تمسكا بثنائية الأدوار المجتمعية. ففي العادة يُتَوقع من الرجال قيادة الذود عن أرضهم وحماية ممتلكاتهم وأسرهم. وعلى النقيض يتوقع من النساء البقاء بعيدا عن بؤر الحروب، لرعاية الأطفال وكبار السن. واضعين في الاعتبار الواقع القائم على ثنائية الأدوار المجتمعية، ماذا عن الذين لا يخضعون للثنائية النمطية المغايرة لتلك المجتمعات؟ أولئك الذين توصم جنسانيتهم/ن وجنسهم/ن كسلوكيات محرمة ومرفوضة؟

كما ذكرت المُحاضِرة في جامعة ساسكس البريطانية Melanie Richter-Montpetit في مقالٍ لها أن الذكورية السامة وكراهية النساء والأقليات الجنسية تطفو للسطح في الحِراكات القومية والإمبريالية العسكرية. ما يدل على اعتقاد عميق لدى المنتمين لهذه الحراكات أن جسد المرأة ضعيف وهن سهل الانتهاك. لذلك يقع العنف الجنسي ضد النساء (والرجال من الأقليات الجنسية) بصورة متكررة.6 من التمظهرات الواضحة لهذه الحقيقة استخدام تلك الحراكات للشعارات التي تشبِّه الطرف المعادي بالمرأة أو توصمه بالمثلية الجنسية.

لا يتورع مشعلو نيران هذه الحرب عن استخدام الكلمات المسيئة المعادية للمثلية لوصم أعدائهم كلما اشتدت بهم البغضاء. “حميدتي7 اللوطي” عبارة تم ترديدها كثيرا بعد الحرب في السودان. بينما تقول ش.ع. إحدى الناشطات الكويريات في السودان: “كلما تحدثت عن الأوضاع السياسية يتم إقصائي بالتقليل من رأيي بتوجيه الإساءات والكلمات النابية دون مناقشة وجهة نظري، وهذا يحدث لكثير من النشطاء الكويريين في السودان بصورة متعمدة لإقصائنا وعزلنا عن المجتمع والواقع الذي تضررنا منه أكثر من غيرنا”.

الاعتداء الجنسي كسلاح:
من جانب آخر، وطوال فترة حكمها ظلت السلطة العسكرية في السودان تستخدم القوات النظامية للاعتداء على المدنيين – بالأخص على الأقليات- وتعذيبهم كوسيلةٍ أساسية لإخراس الشعب. وحتما تتفاقم هذه الاعتداءات في حالة الحرب والنزاع العنيف. تستخدم القوات النظامية في السودان الاعتداء الجنسي كسلاح حرب بصورة نمطية متكررة في السودان،8 وجرائم الحرب اللاإنسانية التي طالت المدنيين في دارفور من الأمثلة الحية لهذا الواقع المأساوي، والتي تبدو شبيهة جدا بما يواجهه السودانيون اليوم في مدن السودان التي تخضع لسيطرة القوات العسكرية. 

الأدهى والأمر، أن الأرقام والإحصائيات المتعلقة بالانتهاكات المختلفة التي تتعرض لها الأقليات الجنسية غير موثقة وتظل خارج سجلات الجهات الحكومية والإنسانية المختصة. كما تشكل الوصمات المجتمعية المتعلقة بالاعتداء الجنسي (بالأخص للرجال) حاجزا كبيرا يحول دون تسجيل وتوثيق العديد منها، والأشد خطرا أنه يحول دون وصولهم للمساعدة الطبية الضرورية والأدوية الواقية من الأمراض المنقولة جنسيًا -إن وُجِدت.9 

في هذا الصدد تحدثت مع ر.ق، شاب مثلي سوداني سرد لي واقعة تهديده بالاغتصاب قائلا “في رحلة خروجي من مدينة الأبيض المُحاصرة كان هناك العديد من نقاط التفتيش التي تتبع لمليشيا الدعم السريع. في كل النقاط كان يتم إنزال جميع ركاب الحافلة وتفتيشهم/ن يدويا وإذلالهم/ن، وسرقتهم/ن. مظهري وطريقة حديثي كانا’زي النسوان’ حسب قولهم، فتعرضت للكثير من التحرش الجسدي واللفظي من قبلهم، وتم تهديدي بالاغتصاب حيث قال لي أحدهم “أي زول زيك نحنا بنزعـ*ـه” (أي نغتـصبه). كنت طوال الطريق خائفا ومتوترا وقلقا من الخطر الذي كان من الممكن أن يحل بي”.

العمل الفني: لينا

كما أخبرتني م.ش لا ثنائية الجندر أن قوات الدعم السريع اعتدوا عليها هي ومجموعة من أصدقائها المثليين في حي جبرة، وهو حي من أحياء مدينة الخرطوم: “ضربونا بالسيطان وأساؤوا لنا بهويتنا. كانوا ينعتوننا بـ “النسوان”، وضربوني بطرف الكلاش في رأسي، وعلقوني من رجليني في البلكونة وكانوا حيرموني منها، عذبونا كتير ونهبوا أموالنا، وطردونا من الشقة الكنا موجودين فيها عرايا. بعد معاناة وصلنا لإمدرمان حتى استطعت أن أعالج جروحي”. وهناك العديد من الشهادات والقصص المروعة للانتهاكات التي تتعرض لها الأقليات الجنسية في السودان، لكن الوصمة تدفع بالكثيرين لالتزام الصمت. فرفض أحد أفراد مجتمع الميم عين المتواجد قسرا في إحدى المدن المشتعلة نشر ما يتعرض له حاليا من أفراد الدعم السريع، الذي هو أقرب للرق والإتجار الجنسي، خوفا على حياته وحياة من معه.

ولا يمكننا أن نغفل النقص الكبير جدا في العون والدعم النفسي الصديق وغير الواصم للأقليات الجنسية -التي تعاني أصلا من الأزمات النفسية بسبب الوصمة والرفض المجتمعي والخوف من الملاحقة القانونية- حيث كانت تعاني من ندرة في العلاج النفسي الموثوق والصديق الذي لا يعاديها ولا يصنف طبيعتها بالمرض الذي يستوجب العلاج. بالقياس بهذا الوضع السيئ مسبقا يمكننا أن نستنتج رداءة الوضع النفسي للأقليات الجنسية خلال الحرب والنزاع المسلح. 

فهي تتعرض للاعتداءات أو/و تسمع بالاعتداءات الممنهجة التي تطال الكويريين. وتصيبهم/ن العزلة الاجتماعية الكبيرة بالبعد عن دوائرهم/ن الاجتماعية بسبب العمليات العسكرية المكثفة والغارات في بؤر النزاع والنزوح إلى المجهول خارج مناطق استقرارهم/ن، مع الدمار المستمر للبنية التحتية وسوء الاتصالات والإنترنت الذي يزيد العزلة خناقا. وأيضا العنف المنزلي الذي يمكن أن يتعرض له أفراد الأقليات الجنسية نتيجة بقاء أفرادها لفترات طويلة مع أسرهم في ظل ظروف لا تسمح لهم بالاستقلالية الاقتصادية مع تسارع انهيار الاقتصاد السوداني. يقول م.ح: ” أصبحت في حالة وهن نفسي تامة بعد عجزي عن الحصول على أدويتي المضادة للاكتئاب طيلة فترة الحرب. فقدت كل وسائل الدعم النفسي وأهمها رفقة أصدقائي وصديقاتي من الميم عين، كما فقدت عملي الذي كان يوفر لي نوع من المسافة الآمنة من عائلتي التي تكره طبيعتي”. 

الأقليات والأولويات
ختاما وبالعودة إلى التساؤل الذي طرحته في بادئ سردي، حول مدى أهمية وأولوية مناقشة قضايا الأقليات الجنسية في ظل هذه الحرب، وهل يعتبر النقاش إنفصاليةً عن الواقع وتجاهل للأولويات؟

افتقار هذا المقال لأبسط الأرقام المتعلقة بوضع الأقليات الجنسية في السودان خلال هذه الحرب وما قبلها كافٍ لأن يكون مؤشرا لفداحة واقع الأقليات في السودان. لكن الإجابة ببساطة أنه وبكل المعايير المستخدمة لترتيب الأولويات، فقضية الأقليات الجنسية ووضعها في الحرب مهمةٌ للغاية وتتطلب تسليط الضوء والاهتمام العاجل بأفرادها. ومناهضة كل الخطابات السامة التي تساهم في زيادة وتيرة العنف والانتهاكات التي تلحق بها. كما من المهم إنشاء مساحات آمنة، تسهل فيها عملية رصد وتوثيق تلك الانتهاكات التي تهيئ لها الحرب بيئة خصبة. وتوفير العون القانوني والنفسي الطارئ في ظل حرب لم ترحم ذوي الامتيازات فكيف يكون حال مجموعات مضطهدة ومرفوضة باسم الدين والمجتمع والقانون، والتي لا تمتلك أي دعم من الأجساد المدنية في المنطقة وفي العالم لدعم أفرادها ومساعدتهم/ن في الحصول على ملاجئ آمنة بعيدا عن الخطر الجسيم الذي يتبعهم/ن ببقائهم/ن في السودان.

  1.  تقصي الحقائق: ماذا أحدث عام من الحرب والدمار في السودان؟ تقرير BBC عربي.
  2. تقارير الأوضاع – مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية – الأمم المتحدة/ 20 يونيو 2024
  3. قناة الشرق الإخبارية،  لقاء تلفزيوني مع سليمى اسحق، 25 أكتوبر 2024، سليمى أسحاق: 309 حالة اغتصاب مسجلة في البلاد منذ بداية الحرب | مديرة وحدة مكافحة العنف ضدّ المرأة والطفل في السودان لـ”الشرق”: 309 حالة اغتصاب مسجلة في البلاد منذ بداية الحرب #الشرق_السودان | By ‎الشرق للأخبار – السودان‎ | Facebook
  4. القانون الجنائي السوداني لعام 1991
  5. تفاصيل ما حدث في زواج المثليين في أبو حمد، صحيفة المشهد السوداني، 8 مارس، 2020
  6. Annick T.R. Wibben. Researching Wars; Feminist Methods, Ethics, and Politics. Interventions (London. Series. Print)
  7. قائد قوات الدعم السريع.
  8. عمليات الاغتصاب الجماعي في دارفور – تقرير هيومن رايتس ووتش، 2014
  9. العنف الجنسيّ | الاستجابة الطبية – أطباء بلا حدود n.d. MSF. Accessed July 22, 2024.