English

بقلم: تازر
العمل الفني: سمر زريق

هذا المقال ملحق بعدد الذبذبات

‪”‬تي هركون، الزوز فالاول دبيو كامبيو وبعتالي طلعو قرداشا!‪”‬ لم يفهم هذه العبارة سوى أفراد من ليبيا وسط جمع كويري ناطق بالعربية، وكانت هذه العبارة بداية الحوار عن اختلاف اللغات الكويرية في هذه البلدان، فهذه اللغة ليست عربية وإنما هي لغة الكوير المشفرة في ليبيا! دفعني هذا الموقف إلى البحث في خصوصية هذه اللغات وبيئاتها وعلاقتها بالنضال الكويري بشكل عام.

تنشأ هذه اللغات الفرعية1 عادة من مصطلحات خاصة بالفئات الكويرية وتتطور مع الوقت لتكوِّن (معجما) أو (لغة) مميزة عن تلك المتداولة والمعلنة في المجتمع.2 هذه الظاهرة الثقافية، شائعة في مجتمعات عديدة حول العالم كلغة البولاري في بريطانيا التي اشتهر استعمالها في ستينات القرن العشرين كوسيلة آمنة للتواصل بين الكوير دون التعرض لعقوبات قانون تجريم المثلية، وكذلك اللوبونكا المكونة من 400 كلمة مميزة هي لغة رائجة بين الكوير في تركيا والتي ترجع جذورها للعهد العثماني، وهناك الإيسنجومو وهي لغة كويرية في جنوب إفريقيا ليست سرية بقدر ما لهذه المصطلحات من خصوصية شبه مقدسة لمكانة الكوير التقليدية في المجتمعات المحلية الإفريقية.

تتفاوت مصطلحات اللغات الكويرية الفرعية في حجمها ومدى شموليتها من مجتمع لآخر، إذ لا تتعدى في أحدها محض كلمات وصِفات سرية بينما قد تكون معجما على درجة عالية من التعقيد في مجتمع آخر، بيد أن هذا التفاوت لا يلغي أهمية دراسة الظاهرة والبحث في علة غِناها ومحدوديتها إذ يعكسان بُنية الكويرية وتاريخها في هذا المجتمع أو ذاك. وتظهر هذه المعاجم نتيجة عوامل اجتماعية وسياسية متشابهة رغم اختلاف الثقافات وبُعد المسافات بين المجتمعات التي تظهر فيها، بيد أن الاضطهاد الاجتماعي وحالة الانغلاق الفكري وحاجة الإبداع3 وغيرها من العوامل، حتّمت ظهور لغة خاصة سرية ذكية.

العمل الفني: سمر زريق

المُلفت أن هذه اللغات تتألف من مصطلحات محرّفة وأخرى مركبة من الكلام المحكي السائد، إذا فالكوير اشتقوا لغة ودية أو آمنة من لغة هي في الغالب معادية لهم! وذلك بميزة التبديل والتحريف والتركيب والإزاحة لدلالات الكلمات، كما أُبتدعت هذه اللغة من ثقافة المجتمع المحلية وبالتالي تفنّد تهمة الخروج عن تقاليد المجتمع والاقتداء بالغرب ولغاته كما يُتهم الكوير مرارا. بمعنى أن الكوير تمسكوا بلغاتهم الأم وخلقوا فيها مساحة أمنة لهم بدلا من الهروب إلى لغات أجنبية لا يفهمها أبناء مجتمعاتهم.

أما في ليبيا، امتاز المعجم الكويري بضمه اللغات المحلية الشائعة كالتباوية والأمازيغية والعربية والإيطالية زي الدارجة متعنا أو الخاصة بنا، وهو ما يفسر عدم فهم أصدقائنا لتلك الجملة المذكورة في بداية المقال، كما يوضح أحد أهم أسباب اختراع اللغة الكويرية في ليبيا وهو التواصل السري الآمن، ولهذا أوردت الجملة دون شرح فكشف سريتها يمكن أن يعرّض مستخدميها للخطر.

ولغتنا هذه ‪-‬ كمثيلاتها في شمال إفريقيا ‪-‬ غالبا ما يتم تجاهلها وفي حالات ذكرها القليلة يُغفل عن خصوصيتها الثقافية التاريخية فتعتبر جزءا من “معجم كويري عربي” أو محض مسميات محلية تابعة إلى كويرية جامعة لمنطقة4 (الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) أو 5 (جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا).

العمل الفني: سمر زريق

ومؤخرا انتبه بعض النشطاء إن لهذه (التبعية) أسلوبا هو أقرب للشعبوية والتركيز على الكم6 لاكتساب مزايا تمثيل بلدان المنطقة على منصات دولية وأمام جهات مانحة عالمية، وللوصول لهذه الغايات يعتمد هذا الإستغلال على محو الهويات الكويرية في شمال إفريقيا التي نشأت عبر تاريخ تفاعلت فيه النضالات الحقوقية مع المكونات الإثنية والثقافية وهو ما يذكرنا بالنزعة العروبية القومية التي تجمع الشامي على المغاربي بلا بحث وافٍ فيما يربطهما.. والأمر في غاية الجدية إذ أن اللغة الكويرية تختزل ثقافة هذه الفئة المهمشة بما في ذلك احتياجاتها وظروفها الاجتماعية وتطورها عبر التاريخ، وحين تُستغل على هذا النحو، تهمش أكثر مما كانت عليه، فكلمة قرداشا الأمازيغية أو ديلهير التباوية تحملان دلالات مختلفة حسب السياق الإثني أو الكويري، فاعتبارهما كلمتان عربيتان أو  تابعتان لمعجم كويري عربي  هو تسطيح وخلط بين هويات متباينة وهو ما يشبه نهج الاستشراق في تكديس ثقافات مختلفة تحت تصنيف واحد.

في الواقع هذه التبعية للشرق إنما هي مرتبطة بتبعية أخرى تُفرض على اللغات الكويرية في الشمال الإفريقي وهو النموذج الكويري المعولم.. فمن سِمات العولمة حشر مجتمعات مختلفة تحت تصنيف واحد7 وبالتالي يسهل تحويل هذه الجماعات المتباينة إلى مستهلك واحد وهو ما تواجهه الشرائح الكويرية في المنطقة ذات الغالبية الناطقة بالعربية ومناطق (جنوب العالم) بالكامل، إذ أن هذه التبعية الناتجة عن الهيمنة الغربية أدت لما يمكن تسميته بالغزو اللغوي لمعاجمنا الكويرية عبر المفاهيم والمصطلحات التي لا ترتبط بالضرورة بالهويات الكويرية المحلية بل بلغة ثقافات حرضت على تجريم الكويرية في بلادنا خلال الإستعمار،8

العمل الفني: سمر زريق

فبعد أن أدخلت صفات مهينة كالبوفتا 9 (شتيمة إنجليزية انتشرت في ليبيا بعد الحرب العالمية الثانية عندما دخلت البلد تحت الانتداب البريطاني، حيث استعملها الجنود البريطانيين والأستراليين بشكل واسع فيما بينهم وضد خصومهم) والبيديه 10 (شتيمة أدخلتها فرنسا للبلدان التي احتلتها وهي تعني أصلا البيدوفيلي بينما في تونس مثلا  يدعى بها الرجل الذي يحمل صفات تعتبر أنثوية) اللتان التصقتا بالمثليين في شمال إفريقيا، ها هي ذات الثقافات الغربية تعود لتحصرها  في مقتطع11 على حساب التسميات المحلية مرة أخرى.. وتسوّق لها حياة كويرية حرة من القيود الاجتماعية وتكرس لنموذج فردانية بست ألوان برّاقة.

وعلى إثر ذلك، يبدو أن ثمة فئتين من الكوير في العالم، الأولى يلقى عليها الضوء وتمول وتدعم لاتباعها النموذج الأبيض بينما تهمل ثقافات وحقوق الفئة الأخرى الأقرب للسياق المحلي، ظهر ذلك جليا حين أستخدم الغسيل الوردي لتبرير التعسف والإحتلال كما حدث في غزة أو تجاهل فظاعات الدعم الغربي لقوانين تجريم المثلية في أوغندا أو   ما تعرف بالتوكنزم،12 المستمر للكوير من غير البيض في مؤتمرات عالمية كمسيرة الفخر العالمية13 ..فالمشترك بين هذه النماذج الثلاثة أنها لا تشبه المثال الأورو-أمريكي سواء في الهيئة ولا اللغة.

إذن اختلاف اللغات الكويرية في بلداننا هو دليل على تمايز أنساقها التي تكونت منها هوياتنا الكويرية الفردية، ولهذا وجب البحث في عوامل نشأتها والاهتمام بدراسة مصطلحاتها بشكل مستقل لا كتوابع لمركزيات إقليمية كمفهوم “الكويرية العربية” أو جزء من الكويرية الغربية المعولمة..إذ أن هذه المركزيات لا تعكس بالضرورة احتياجاتنا ولا تعزز نضالنا الكويري المحلي وإنما تحول هذه الهويات المعقدة إلى نسخ مستهلِكة لنموذج مفروض قسرا، وبالتالي نفقد إحدى أهم الأدوات الفعالة لمقاومة أنظمة التعسف وهي معرفة ذواتنا وجذورنا الكويرية المستقلة.

العمل الفني: سمر زريق

  1. Sublanguages, Richard Kitterdege, American Journal of Computational Linguistics, Volume 8, Number 2, University of Montreal, April-June 1982.
  2. Anna T, The Opacity of Queer Languages, Issue 60, December 2014, E -flux Journal.
  3. بمعنى التركيز على تجميع أكبر عدد من البلدان الناطقة غالب بالعربية..لكسب مزايا الدعم والظهور والتمثيل.
  4. MENA
  5. SWANA
  6. بمعنى التركيز على تجميع أكبر عدد من البلدان الناطقة غالب بالعربية..لكسب مزايا الدعم والظهور والتمثيل.
  7. للمزيد يرجى الاطلاع على رجب بودبوس، ضد العولمة، أكاديمية الفكر الجماهيري، 2006، الطبعة الأولى.
  8. رتاج إبراهيم، عندما يترك الإستعمار آثاره على الثقافة والجندر في المنطقة العربية، رصيف 22، 7 نوفمبر 2023.
  9. Poofter
  10. Pédé
  11. LGBTQ
  12. وهي ممارسة رمزية في سبيل تحقيق مشهد مزيف من التنوع والإدماج في مساحة معينة، بحيث يتم تمثيل فئات مهمشة ظاهريا فقط دون تحقيق مساواة حقيقية في تلك المساحة.
  13. World Pride