كلمات: سيث زاك
العمل الفني: عود نصر
هذا المقال من عدد الذبذبات

بالنسبة للكثيرين في المجتمع الكويري، الأصوات ليست مجرد اهتزازات تنتقل في الهواء فحسب، ولكنها أصداء للتاريخ الشخصي، تحمل ثقل العلاقات الماضية، وتجسّد متعة الاتصال وألم الانفصال. غالبًا ما تتشابك هذه التجارب السمعية مع صدمة الإبحار عبر مجتمع قد لا يقبل صاحبها دائمًا. إن الهمسات العاطفية المكنونة ونغمات الرفض المجتمعي القاسية وصرخات الصراع الداخلي الصامتة، تجعل تجربة المجتمع الكويري فريدة، حيث يتشابك الصوت والصدمات النفسية في كثير من الأحيان داخلها.
تحاول هذه المقالة الخوض في العلاقة العميقة بين هذين العنصرين، واكتشاف كيفية تحوّل الهمسات والصرخات إلى وعاء في الذاكرة يحمل ندوب الصدمات الشخصية والمجتمعية.

تغيرات المراهقة:
كانت تجربة  تغيّر نغمة أصواتنا خلال فترة المراهقة شاقّة، خاصّة عندما تصبح تلك النغمة موضوعاً للتمحيص والسخرية. في مرحلة البلوغ تغيرت أصوات أصدقائي نحو الخشونة والذكورة وبقي صوتي ناعماً رقيقاً، هذه المرحلة كانت من المحطات التي أثّر بها الصوت عليّ بشكل كبير، أصبح اختلاف صوتي عن من هم في نفس سني  والظهور مختلفاً مصدراً للقلق والخجل. كرهت صوتي قبل أن أتعلّم كيف أحبّه، كرهت تفسير صوتي الناعم كعلامة من علامات الأنوثة وفكرة أنّ صوت الرجال يجب أن يكون خشناً غليظاً عميقاً، يدلّ على القوة والعظمة. انتظرت أسابيعاً وشهوراً متأملاً أن يصبح صوتي خشناً، ومع تغيّر شكلي وبروز ملامح الرجولة على وجهي وجسدي، بقي صوتي غصّة في قلب الطفل ذو الرابعة عشر من عمره، الذي تعرّض للتنمّر والسخرية من زملائه بسبب صوته الرقيق الذي لا يناسب مظهره الرجولي المألوف لدى المجتمع المنغلق الذي عاش به. ولم أستطع الحديث مع أحد حول هذا الموضوع كونه مُخجل ومثير للشفقة، ولعلّ هذه المحطّة كانت أُولى محطّات وعيي بالصوت ومدى تأثيره على صاحبه. أخذ الأمر مني سنين عديدة قبل أن أتعلّم كيف أحب صوتي الذي يميزني دون غيري، رغم أنّني حاولت أن أخشّنه أو أغيره مرات عديدة، لكنّني وجدت نفسي دائماً ما أعود إلي صوتي الطبيعي.

لم يكن صوتي الصوت الوحيد الذي كرهته، كرهت أصوات المتنمرين، أصوات الضحكات المستهزئة بميولي التي لم أصرّح بها قط. إلا أنّ همسات الإشاعات كانت أسوأ الأصوات التي سمعتها

كان أكثر ما يخيفني هو أن يكشف صوتي عن ميولي، فكشاب مثلي الجنس كان يكتشف جنسانيته في سنوات المراهقة، كان عليه أن يكتم الأمر سرّاً، وأن يخفي الكثير من العلامات التي قد تكشفه من النظرات واللمسات وبالتأكيد الكلمات التي قد تفضحه، صوتي الناعم كان دليل أنوثة لدى أقراني وبالتالي كان الكثير من المتنمرين يطلق علي ألفاظاً “كارهة للمثلية” (الهوموفوبية) بسبب صوتي الرقيق، وهو ما جعلني أكره صوتي أكثر.
لم يكن صوتي الصوت الوحيد الذي كرهته، كرهت أصوات المتنمرين، أصوات الضحكات المستهزئة بميولي التي لم أصرّح بها قط. إلا أنّ همسات الإشاعات كانت أسوأ الأصوات التي سمعتها، وتعلّمت مع الأيام أن أتجاهلها لكنّها بقيت تجرحني في الصميم.

صوت أُنثوي في الزنزانة:
يتردّد صدى تجربة الصدمة المرتبطة بالصوت في قصص الكثيرين داخل مجتمعنا. على سبيل المثال، تحدّثت إلى رامي، وهو مدرّس لغة عربية مثلي الجنس من سوريا في عامه ال 33، عن كيفية تحوّل صوته “الرفيع والمخنّث”، إلى نقطة محورية في عذابه. لقد جعله صوته الناعم هدفاً للتنمّر، ما أدّى إلى تفاقم شعوره بالعزلة. عانى رامي الكثير في حياته، فهو معتقل سابق ومصاب باضطرابات نفسية لم يعلم بها أحد، لم يُسعفه صوته في إيصال مشكلته للسلطات التي سجنته وعذّبته أياماً كثيرة، فهو يرى أنّ صوته الرفيع القريب للصوت الأنثوي الناعم، كان نقمة عليه في الكثير من محطّات حياته، هذا الصوت الذي كان يحاول من خلاله أن يعبّر عن شخصيته وما في داخله من مشاعر وأحاسيس وأفكار عن هذا العالم المليء بالقسوة، لم يستطع أن ينصفه أمام سجّانيه الذين كانت أصواتهم ضجيجاً يملأ المكان رعباً وقلقاً، بل جعله عرضة للإهانة والضرب.

تُسلّط تجربة رامي الضوء بشكل أكبر على مدى تعقيد الصوت والذاكرة. أصبح صوته، الذي كان يُنظر إليه على أنّه ضعيف ومخنّث، مصدراً للألم والضعف، خاصّة أثناء سجنه. وعلى النقيض من ذلك، فإن الصمت والأصوات الطبيعية التي اقترب منها بعد خروجه من السجن وفّرت له إحساسًا بالسلام والتشافي من ماضيه.
على الرغم من ذلك، ما تزال هناك أصوات تستحثّ صدمته النفسية وتستعيد مشاعر الخوف والانزعاج إلى اليوم، حيث أخبرني أنّ صرير الباب الحديدي عندما يُفتح أو يغلق في أيّ مكان يذكّره بالمعتقل ويسبب له اضطراباً يجعله يتقوقع على نفسه من جديد.

العمل الفني: عود نصر

عبور الصوت:
وبالمثل، روت ماريا، وهي فتاة عابرة جنسياً، رحلتها مع صوتها، التي كانت عملية مواءمة صوتها مع هويتها الجنسية محفوفة بالتحديات. كان صوتها قبل العبور مصدراً لانزعاجها الجندري بسبب عدم تطابقه مع هويتها الجندرية. ومن جهة أخرى أخبرتني أنّ أكثر الأصوات تأثيراً في ذاكرتها هو صوت أخوتها وهم ينادونها بأقبح الصفات والشتائم وصراخهم الذي كان يرافق هذه الإهانات، رغم أنّها ابتعدت عنهم آلاف الكيلومترات إلّا أنّها ما زالت تستقبل إهانتهم على وسائل التواصل والتسجيلات الصوتية التي يرسلونها لها كلّ حين، لكنّها وصلت لحالة من التصالح مع الذات ساعدتها في تجاهل  تأثير هذه الأصوات على حياتها، فنرى في تجربتها الكثير من التحدّي والقوة في تخطّي هذا التأثير الذي قد يؤرّق حياتها ويسبب انزعاجها. بالمقابل وفي تجارب أخرى هناك أصوات تعبر الأثير لتثير مشاعر معينة في أنفس الكويريين من مختلف المشارب والأنواع والتي تترك أثراً عميقاً في حياتهم.

كما يشاركنا مهند وهو طبيب مثلي الجنس من تركيا يبلغ من العمر 46 عامًا، تجربته مع تأثير الصوت على العلاقة الحميمة. يفضل مهند الأصوات الذكورية العميقة  وهو ما يعكس تنوّع الرغبات داخل مجتمع المثليين. تسلط رؤى مهند الضوء على كيف يشكّل انجذاب كل فرد لأصوات معينة علاقاته الحميمة. بالنسبة لـه أصوات الأشخاص العميقة والذكورية تُثير لديه الرغبة والانجذاب، في حين أنّ الأصوات الناعمة لا تجذبه وقد تجعله ينفر من الشخص المقابل إن كان الشكل لا يتناسب مع الصوت، فمن وجهة نظره أّنّ هذه الرغبات تختلف من شخص لآخر في مجتمع الميم عين، ولكلّ شخص صوت ما يثيره أو يجذبه لدى اللقاء أو أثناء الحديث.

قوة الصوت:
عند الحديث عن قوة الصوت، لا بدّ لنا من تسليط الضوء على التنميط الذي يقوم به بعض الكويريين والذي يسبّب نفور الكثير من المعياريين، حيث يرى مهند أنّ بعض الأصوات التي يستخدمها الكويريون للتعبير عن أنفسهم بتنعيم أصواتهم أو تأنيثها، أو استخدام بعض الألفاظ المستهجنة في الحوار، يجدها أنّها تعزز النظرة النمطية التي كوّنها المجتمع العربي والشرق أوسطي عن الكويريين، بالنسبة له فأنّ هذه الأصوات هي أصوات منفّرة ومثيرة للاشمئزاز، وهو أحد أفراد مجتمع الميم عين، يراها تثير الغثيان وتؤجّج الغضب المكبوت في قلوب المعياريين في المجتمعات العربية. رغم أنّني أتفق مع مهند جزئياً في أنّ بعض الأصوات قد تُثير المشاكل للكويريين في المجتمعات المنغلقة العربية، إلّا أنّ هذا ليس مبرراً يدفع الكويريين للتوقّف عن التصرّف على طبيعتهم واستخدام طبقات الأصوات وطريقة الكلام التي تناسبهم للتعبير عن أنفسهم بشكل صادق وحقيقي بعيداً عن التصنّع والتقليد. 

ومن جهة أخرى، في سياق التغيير المجتمعي، يُعتبر استخدام الصدمة والاستفزاز أحد الأساليب المستخدمة لتحقيق تحوّلات اجتماعية، وإذا نظرنا للكفاح الكويري الغربي نجد الكثير من الأمثلة عن الصدمة والاستفزاز من عروض الجر حتى اللباس اليومي غير النمطي، وصولاً لمسيرات الفخر التي أصبحت تجوب العالم للتعبير عن الاختلاف ولتعويد المجتمعات المحيطة بأنّ الكويريين موجودون ولو كان باستفزازهم أو صدمتهم بأساليب غير تقليدية، كالأصوات غير النمطية التي يستخدمها فئة من مجتمع الميم عين.
أما سامر أو سمراء 25 سنة، الدراغ كوين الذي يشارك في استعراضات الجرّ في أميركا وأوروبا، يشاركني الرأي ويرى أنّ هذه الأصوات هي أحد أدوات النضال الكويري لنسف النمطية عن الذكر والأنثى، من وجهة نظره فإنّ الصوت والشكل واللباس والمكياج لا يحدّد الهوية الجنسية أو الجندرية لدى الأشخاص، وتؤمن سمراء أنّ صوتها الاستعراضي هو طريقتها في التعبير عن فنها ولو أنّ العديد من الأشخاص المعياريين يرونه “تشبّهاً بالنساء” وأنّ بعض الكويريين يرونه تنميطاً لصورة مجتمع الميم عين في عيون الآخرين، فهي ترى أنّ الكفاح يأتي بالأصوات المختلفة عن المعيارية، الأصوات غير النمطية تشدّ الانتباه ولو امتعض منها البعض. 

تسلط هذه التجارب الضوء على العلاقة المعقدة بين الصوت والصدمة في مجتمع الكويريين. أصواتنا، التي غالبًا ما تكون جانباً عميقاً من هويتنا، يمكن أن تصبح سببا للألم عندما لا تتوافق مع المعايير المجتمعية. وهو ما يولد الكثير من الاعتداء الصوتي متمثلا بالصراخ والتنمر والصخب الذي قد يعرضنا لصدمة عميقة متمحورة حول الصوت. ومع ذلك، فمن خلال أصواتنا نفسها نجد قوتنا وشفائنا التي قد تقودنا ومجتمعنا الكيري نحو قبول الذات. واحتضان أصواتنا الفريدة يصبح بمثابة تحدّي للأعراف التي تسعى إلى إسكاتنا.