بقلم: إيلايزا ماركس
العمل الفني: هيثم حداد/استوديو منجنيق
ترجمة: هبة مصطفى
تدقيق: نذير ملكاوي
هذا النص بالتعاون مع صفحة سينما الحمراء
تنبيه: يتضمن المحتوى حديثاً عن العنف الجنسي والعنف الجندري وكراهية المثلية⚠️
مع احتدام الحرب على غزة، بالتزامن مع الحملات الاستعمارية الأخرى في أنحاء فلسطين، رأينا أحداثاً “غير مسبوقة” تُبث مباشرةً عبر وسائل الإعلام الرئيسية ووسائل التواصل الاجتماعي؛ فقد شهدنا خلال هذا التصعيد الأخير للتطهير العرقي في فلسطين استهداف سكّان غزّة بالقتل العشوائي والاعتداءات والتجويع والقصف والتدمير الهائلين للبنية التحتية والمؤسسات في غزة والضفة الغربية، واختطاف واحتجاز الكثير منهم دون سبب أو تهمة، والتوسع في الاستيلاء على المنازل والأراضي، من بين جرائم أخرى، وقد حدثت كل هذه التصرفات الإجرامية جنباً إلى جنب مع التبجح في إظهار أعمال الإبادة الجماعية ونية القادة والعاملين/ات في السلك العسكري والإعلامي و”المدنيين/ات” ارتكابَها.
رغم أهمية أنّنا شهدنا الفلسطينيين/ات على صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة يؤدون أدوار الصحافة والمحاماة والأكاديميا والنشاط الاجتماعي، والتضامن العابر للحدود مع فلسطين، والتحركات التي تهز الأنظمة الرأسمالية والسياسية، وقد رأينا “إسرائيل” تُساءَل عن جرائمها في القضية التي رفعتها ضدها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، لا تعدو كونها أهمية رمزية، ولهذا، بالطبع، تأثير على الكيان الصهيوني.
ومع فشل “إسرائيل” في كسب الدعم الدولي العام لمشروعها الاستعماري، انهارت استراتيجية الغسيل الوردي التي استخدمتها لعقود؛ فقد ذكرت جمعية القوس في مقال نشرته على موقعها الإلكتروني عام 2020 بعنوان “ما وراء الدعاية: الغسيل الوردي كعنف استعماري” أن الغسيل الوردي عَرَض من أعراض الاستعمار الاستيطاني وعمل دعائي واستراتيجية لتغيير الصورة “تهدف إلى إعادة تقديم “إسرائيل” باعتبارها “دولة” ليبرالية و”عصرية” في مواجهة حركة التضامن المتنامية مع فلسطين” من خلال وصف المجتمع الفلسطيني بأنه “مصاب بالكراهية المَرضية للمثلية” وبالتالي “لا يستحق التضامن”، ولا يعزز هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني العدواني فحسب، بل يزرع الانقسامات داخل المجتمع الفلسطيني على نحو “يدفع الفلسطينيين/ات الكويريين/ات نحو النظر إلى أنفسهم/ن على أنهم ضحايا عاجزون”.
تتناول هذه المقالة حواراً دار على مدى شهرين مع حنين معيكي1 وموسى الشديدي،2 حيث تهدف إلى تحليل حالات بعينها استُخدم فيها الغسيل الوردي (وفشل) منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 وتأطيرها بوصفها جزءاً من استهداف المشروع الاستعماري الأكبر للأجساد، كما يبحث استخدام “سياسات الهوية” في التنظيم اليوم، وما قد تعنيه الفترة الحالية للتنظيم في المستقبل.
حُرّر هذا الحوار لغرض الإيجاز والوضوح، ومع هذا فالمقالة لا تزال طويلة، لذا يُرجى الاطلاع على الأقسام أدناه ليسهل على الجميع التنقل بينها:
- سياسات الهوية والمشروع الاستعماري
- تغيُّر الخطابات حول النوع الاجتماعي والجسد
- إشكاليات سياسات التضامن
- القيم والتنظيم “في زمن الإبادة الجماعية”
إليزا: قبل أن نبدأ، حنين، برأيكِ، ما الذي يمكن أن يُظهره لنا تحليل الغسيل الوردي في اللحظة الراهنة؟ كيف اختبرتِ وواجهتِ هذا الجانب تحديداً من المشروع الاستعماري؟
حنين: في هذا السياق المؤلم، وسط واحدة من أفظع الإبادات الجماعية الاستعمارية في تاريخنا، نرى الصهاينة يستخدمون خطابَ وإطارَ الغسيل الوردي – إلى جانب السياسات الجنسية وسياسات النوع الاجتماعي بوجه عام – بأبشع الطرق الممكنة، وسيكون من المفيد لو ركزت الجهود الساعية لدحض الغسيل الوردي في هذه الإبادة الجماعية على التجارب الكويرية في فلسطين أيضا.
لطالما استخدمت القوى الإمبريالية المجتمعات الكويرية في منطقتنا (وفي مناطق أخرى) بوصفها سلاحاً وقت الحرب، وقد رأينا هذا في العراق وفلسطين وأفغانستان وأماكن أخرى. واليوم، ليس ثمة شك في أن الغسيل الوردي وحقوق أفراد الميم عين3 تحولا إلى أدوات مباشرة لقتل سكّان فلسطين؛ فخطاب الغسيل الوردي يُستخدم في هذه اللحظة من التاريخ لأنه يخدم التطلعات الاستعمارية الرامية إلى محو فلسطين، وتاريخ الفلسطينيين/ات وهذا ليس بجديد على المشروع الصهيوني.
بالنسبة لي، تعني فلسطينيتي و/أو كويريتي العيش بصفة دائمة في توتر ناجم عن الحاجة إلى اختيار ما هو أكثر إلحاحاً بينهما، وهنا تعمدت ألا استخدم عبارة “أكثر أهمية”، والآن، مع الانهيار التام للأطر الليبرالية مثل حقوق الإنسان وحقوق أفراد الميم عين والشمول وكذلك سياسات الهوية، أعتقد أن هذا التوتر هو ما يدفعنا إلى التحرك وربما التحرر، لا مجرد “الارتباك”.
كان الغسيل الوردي حاضراً دائماً في العنف الاستعماري الصهيوني، ولهذا طالما كانت مناهضة الاستعمار – سواء في الخطاب أم في الممارسة العملية – جزءاً مهماً من عمل جمعية القوس؛ فنحن نعطي الأولوية للسياسات على الهوية، فقد كانت هذه تجربتنا التي عشناها. كما إن الممارسة العملية لمناهضة الاستعمار وإلغائه وإنهائه تركز على هذا الأمر وتتطلع إلى بناء حركة حية، وربما بسبب هذا النهج، وجد الفلسطينيون/ات ممّن يتنظّمون وفق أطر أخرى (نسوية وحقوقية وسياسية) صعوبة في التعبير عن التضامن معنا، وقد سخرت الحركات النسوية من تنظيمنا حفلات وفعاليات لبناء المجموعات قائلةً إننا لم “نتسيّس بما فيه الكفاية”، وتجاهل بعضها نشاطنا السياسي مكررةً خرافة أننا لسنا جزءاً من مجتمعنا، وبدا أن للجميع رأياً ناقداً لنشاطنا.
لكننا رأينا منذ البداية كيف أن الغسيل الوردي يعمل على عزل الكويريين/ات عن مجتمعاتهم/هن على الرغم من أن الكثير منا يُعايش الحرمان بالفعل من العائلة والمجتمع. والغسيل الوردي، بوصفه أداة استعمارية، شر مُبين.
سياسات الهوية والمشروع الاستعماري
إليزا: للتطرق إلى قضية “سياسات الهوية”، ربما يمكننا مناقشة صورة الجندي الصهيوني الذي يقف فوق الأنقاض في غزة رافعاً علم قوس قزح مكتوباً عليه “باسم الحب” بالإنكليزية، والعبرية، والعربية؛ فقد تم تداولها بكثافة طوال الأشهر الأولى من الإبادة الجماعية، فما الذي تستحضره هذه الصورة بالنسبة لكما؟ وكيف استُغلت “سياسات الهوية” في المشروع الاستعماري الصهيوني وغيره من المشروعات الاستعمارية؟
حنين: سابقاً، كان الغسيل الوردي الصهيوني يركز على “حقوق الإنسان” – زاعماً أنهم تقدميون أو ديمقراطيون أو يهتمون لأمر “المثليين/ات” – ويهدف في الوقت ذاته إلى تصويرنا على أننا نرزح تحت التخلف وضحايا لمجموعة من الخرافات الإمبريالية التي تدّعي أن كراهية المثلية متأصلة في ثقافتنا، والآن، يستخدمون الغسيل الوردي بينما تدوس أقدامهم كل إطار أو قيمة لحقوق الإنسان؛ فقد دمروا من خلال الإبادة الجماعية التي يرتكبونها الإطار الأساسي الذي يدّعي غسيلهم الوردي أنه يستند إليه.
ينقل الغسيل الوردي، الذي تنطوي عليه هذه الصورة، هذه الفكرة: “نحن – بصفتنا مثليين/ات من إسرائيل – نفتخر باستعماريتنا، وبالرقص فوق الجثث الفلسطينية وبكوننا جزءاً من آلة القتل الصهيونية”، وتحوّل هذا الفخر بالمثلية إلى الفخر بكونهم/ن “مثليون/ات قتلة” يشاركون وينشطون في واحدة من فظائع القرن، وفحوى هذه العبارة في الحقيقة ليس الحب بل “الإبادة الجماعية”.
موسى: من نواحٍ عدة، تذكّرني هذه الصورة بوجود الجيش الأمريكي في العراق، الذي ادعى أن جزءاً من مشروعه كان تحرير “المثليين العراقيين” لتبرير الغزو، وبالنسبة لي، علم قوس قزح وما يمثله شيء استعماري شكلاً ومضموناً لا لأن جندياً إسرائيلياً يرفعه الآن في غزة فحسب، بل وعندما يُرفع في السفارات الاستعمارية في جميع أنحاء المنطقة، فإنه يولد عنفاً ضد أفراد الشعب العراقي غير المعياريين مثل كرار نوشي الذي تعرض للاغتيال في العراق بعد شهر من رفع القنصلية الأمريكية علم قوس قزح في يونيو/حزيران 2017.
بعد الغزو، رأينا استيراد سياسات الهوية الغربية واستيعابها، واستخدامها ضد الشعب العراقي؛ فقد نشرت هيومن رايتس ووتش تقريراً عام 2009 أجرت فيه مقابلات مع 24 شخصاً لم يعرّفوا أنفسهم باستخدام المرادف العربي “مثليين” أو “مثلي” بل باستخدام المرادف الإنكليزي “چـاي”، الهوية التي دخلت العراق بعد غزو الأمريكان عام 2003، وأفادوا أن سلطات الاحتلال الأمريكية “دعمت ضمنياً” بعض هجمات الميليشيات، وقد رأينا مثالاً على تلك الهجمات عند اكتشاف جثة حُفِر عليها كلمة “مثلي” باستخدام سكين في ذلك الوقت. لقد استغلت الميليشيات رفع علم قوس قزح، وهوية “مثلي”، والغسيل الوردي الأمريكي لتبرير حملات العنف والقتل.
وأتساءل عما إذا كانت سياسات الهوية الجنسية الغربية ورموزها قد حققت فائدة أكبر للميليشيات المدعومة من إيران في العراق من “ضحاياها”، وما إذا قد سهلت على الميليشيات تحديد من تستهدف بالهجوم والقتل وكيفية تبرير ذلك، وقد أوضحت هذه المخاطر للمسؤولين الغربيين والمنظمات غير الحكومية الغربية، لكن لم يبدُ أنهم قد اهتموا بذلك، واستمروا في رفعه مراراً وتكراراً في جميع أنحاء المنطقة.
حتى الأشخاص الذين يرفعون علم قوس قزح في احتجاجات التضامن مع فلسطين لا يمكنهم مناهضة الاستعمار المتمثل فيه، حيث يشير جوزيف مسعد إلى أن من يناهض الإمبريالية يمكنه تبني المعارف والأنطولوجيات الإمبريالية في الوقت نفسه،4 وقد كتبت أودري لورد أن “أدوات السيد لا يمكنها هدم منزله”،5 وبينما قد تكون الأدوات الاستعمارية مفيدة، إلا أنها لا يمكن أن تُحدث أي تغيير جذري، فلا يمكننا إنهاء الاستعمار بمنتجاته.
حنين: يجب أن نتوقف عن استخدام سياسات الهوية بعد هذه الصورة؛ فهذا الاستخدام الأكثر دناءة لها، ولم يكن من المفاجئ مسارعة المجتمعات الكويرية الإسرائيلية إلى إعلان ولائها، بل يكشف عن دورها النشط في آلة القتل منذ البداية.
أشادت وسائل الإعلام الناطقة بالعبرية بالجنود المثليين، مشيرةً إلى أنهم سيفوزون بمكانة في المجتمع بعد الحرب، لكن الأمر لا يتعلق بتقبل الحقوق المثلية، بل بإثبات الولاء ولعب دور نشط في الآلة الصهيونية، وفي السابق، رأينا هذه التصرفات من خلال “البروباغندا” بصفة أساسية، والآن تؤصّل هذه الصورة الغسيل الوردي في القتل والإبادة الجماعية الفعليين، ما يوضح أن الغسيل الوردي عنف استعماري.
استناداً إلى المثال الذي ذكرتَه في العراق، يمكننا أن نرى كيف يستخدم المستعمرون سياسات الهوية في فلسطين، أولاً لإعلان الولاء باسم تلك الهوية وثانياً من أجل “وسم” قوى المقاومة والرجال الفلسطينيين وإظهارهم في أسوأ صور كراهية المثلية، كما أنها تكشف عن تناقض عميق في نفسية المستعمِر، سواء أكان مثلياً أم لا؛ فسياسات الهوية ذاتها التي تُستخدم في تعزيز فخرهم بكونهم إسرائيليين وصهاينة تُستخدم لإشعار الفلسطينيين بالخزي والعار، والغسيل الوردي أداة كارهة للمثلية ومتخلفة عفا عليها الزمن، والطرق التي يستغل بها المجتمع الكويري الصهيوني هذا المنطق المتناقض لإظهار أنه “بإمكانه القتل أيضاً” تعبير صارخ عن أن هويته المثلية أكثر أهمية من الإنسانية، وسيستغل الإمبرياليون كل هوية لدينا لعزلنا عن أرضنا ومجتمعاتنا، ولجعلنا أكثر ضعفاً و”ضحايا أسهل”.
تغيُّر الخطابات حول النوع الاجتماعي والجسد
إليزا: رأينا أيضاً عدة صور وشهادات تثبت تعرية الأجساد الفلسطينية والاعتداء عليها وتعذيبها، وقتلها كما رأينا الطريقة التي “يعرضها بها” المستعمرون، وهذه التصرفات ليست جديدة، على عكس السرديات المحيطة بها.
موسى: سلوك التقاط الصور للسجناء العرايا دون موافقتهم أمر غريب، لكن يبدو أن الجنود الإمبرياليين يهتمون بها عند غزوهم أو احتلالهم لأي مكان في “الجنوب العالمي”، كما رأينا في سجن أبو غريب، ولا بد أن الأمر يُرضي حاجة نفسية أو سيكوباتية لديه، وأفترض أنه يؤكد لهم أنهم قد وصلوا إلى مستوى عالٍ من إذلال الآخرين، أو أن التقاط هذه الصور جزء من فعل الإذلال، وقد ذكر برنارد هيكل أن “وضع السجناء فوق بعضهم البعض وإجبارهم على الاستمناء أو التعري أمام بعضهم البعض” كان جزءاً من التعذيب المنهجي، وعند سؤالهم عن أسباب انتهاجهم لهذه السلوكيات، أجاب أحد الجنود ببساطة أنه “كانت أوامر الاستخبارات العسكرية”.
حنين: من الواضح في معظم هذه الصور أنهم لا يريدون سوى إذلال الفلسطينيين؛ فإذلال الأجساد وتعريتها روتين استعماري متبع في فلسطين، لكن إذا ما فكرنا فيها بوجه أعم، سنجد أنها تُظهر كيف أن العنف الجنسي والجندري متأصل في المشروع الاستعماري، والغسيل الوردي أكثر من مجرد “بروباغندا”؛ فهو العنف الجنسي والجندري الممارس ضدنا.
لقد أخطأنا على مدار العشرين عاماً الماضية عندما ركزنا في حديثنا على الأطفال والنساء وكبار السن ونحّينا أجساد الذكور جانباً، ومع الكشف عن العنف الجنسي والجندري الحاصل في هذه الإبادة الجماعية، فإننا نرى تحولاً كبيراً في إعادة تحديد العلاقة بهذه الأفعال العنيفة و”الشوفينية” من خلال استخدام عبارات مثل “نحب رجالنا الفلسطينيين”، كما إننا نعيد النظر في موقعية الأجساد وبالتالي كيفية تقديرها، وهذا التحول تاريخي؛ فكأن الناس تقول للرجال “ليس في الأمر إهانة” و”لا ننظر إليكم نظرة دونية” بسبب ذلك، وكما هو الحال مع عجز صور الغسيل الوردي التي ناقشناها أعلاه عن تحقيق الأثر المرجو منها، يفعل الناس عكس ما أفترض أنه الهدف من هذه الصور والأفعال.
وتفشل نضالات التنظيم والتحرر السياسي الفلسطيني عندما تدعونا إلى ضرورة إخفاء هذه الأشياء، بدلاً من قول إننا نحبهم على الرغم من حدوثها، وثمة أمل في أن المجتمع سيقول، في وقت ما، الشيء ذاته عن الهوية الكويرية وعن أي هوية أو اختيار أو سلوك آخر يُوصَف بأنه مخز، والأمر أكثر تعقيداً من مجرد التحدث عن “التقبل”، لكن ربما مقاومة العار والضغط الذي يدفعنا إلى الاختباء هي النقطة التي يجب أن ننطلق منها عندما نضغط من أجل التحرر.
موسى: هذا التحول ظاهر في شهادة رجل أُفرِج عنه من سجن النقب عن التعذيب الجنسي والتحرش والاغتصاب الذين شهدهم هناك، وفي حين أصبح الرجال أكثر قدرة على التحدث عن هذه الأشياء في الآونة الأخيرة، فهناك أيضاً توثيق للتعذيب الجنسي الصهيوني للرجال الفلسطينيين حتى قبل إنشاء “إسرائيل”، فعلى سبيل المثال، كتب السجين السياسي الفلسطيني صبحي الخضراء في شهادته عام 1938 عن تعرض السجناء الفلسطينيين للاغتصاب على يد الجنود،6 وإعادة تعريف هذه السرديات لا تقلل من شأن من يتعرضون للتعذيب بل الجلادين الذين يستخدمون المثلية عقاباً، وتبدو هذه الأفعال كأنها التعبير الأكثر مباشرة عن كراهية القوى الاستعمارية للمثلية.
حنين: في حين أن العديد من السجينات قد كتبن العديد من الكتب وقدمن شهاداتهن عن العنف الجنسي في السجون – مع بث الإبادة الجماعية بثاً حياً ومباشراً – فما تغير الآن هو كيفية تعاملنا مع الأمر وفهمنا له، وكيفية وقوفنا ضد القصص التي يحاول الصهاينة فرضها علينا، فكما قلت، ادعاء “إنقاذ” النساء والمثليين/ات واستخدام هذه الاستراتيجيات في الوقت نفسه يكشف أن هذا كله مجرد تصريحات وسياسة فارغة.
إشكاليات سياسات التضامن
إليزا: تضاعفت حركات التضامن الكويري وسط الموجة الأكبر من التضامن مع فلسطين، وأريد تناول حالتين من حالات “التضامن الكويري” من منظور نقدي للتفكير في شكل التنظيم والتضامن الهادفين.
لنبدأ هذه المحادثة، ولأننا تحدثنا بالفعل عن رفع علم قوس قزح، سأذكر فيديو يصور نشطاء وحلفاء من المجتمع الكويري – من أمريكا والمنطقة – ذهبوا إلى مصر لتوزيع المساعدات على النازحين/ات من غزة، في محاولة لدحض ادعاء أن “سكان غزة يقتلون الكويريين/ات ” وتكتيكات الغسيل الوردي الأخرى.
حنين: لطالما شعرت أن التضامن الذي يحدث كرد فعل محدود، وعلى الرغم من أنه يبدو غير ضار، إلا أنه يلعب على وتر الغسيل الوردي ذاته مركِّزاً على “كراهية المثلية” بوصفها مقياساً للتقدم والتخلف، مع استخدام كراهية المثلية الآن مقياساً لنجاة الناس من الإبادة الجماعية أمر مهين وغير ذي صلة، كما أن العناصر الدعائية لمواجهة الصهيونية بهذه الطريقة “تُنكر” كراهية المثلية الموجودة في مجتمعي، وأنا أرى أن هذه التحركات تلهينا عن نضالنا اللامتناهي لمقاومة الصهيونية والغسيل الوردي.
موسى: بطريقة ما، يُظهر هذا أن الغسيل الوردي في الغرب يتغير؛ فخلال أحداث الشيخ جرّاح عام 2021، كانت هناك صورٌ لرجل عربي/فلسطيني يرتدي الكوفية يُقبّل رجلاً يهودياً يرتدي طاقية “الكيباه”، وهي تنطوي على فكرة “الحب هو الحب” التي تخفي السياق السياسي للاحتلال الصهيوني. والآن، أصبح الغسيل الوردي دعوة لدعم الإبادة الجماعية، ولهذا نرى حركات الميم عين تعلن عن مناصرتها لفلسطين، لكن، مرة أخرى، لا يمكننا نزع صفة الاستعمار عن سياسات الهوية، وهذا التصاعد في تضامن الميم عين مع فلسطين يمثّل استجابة للتحولات في الخطاب الصهيوني، الذي حوّل الغسيل الوردي من سياسة لتغطية الجرائم إلى سياسة لتبريرها، لكن سياسات التضامن (غربية الأسلوب) مرتبطة دائماً بالظهور، وقد علّمتنا المقاومة شيئاً عن سياسات المرور والاختباء – سواء عبر الأنفاق أم من خلال تغطية الوجه – بوصفها أداة فعالة لتحقيق التحرر، وعلى هذا المنوال، نرى أن سياسات الظهور، وإن كانت فعالة في بعض الحالات، إلا أنها تظل محدودة، بينما ندخل عصراً جديداً من سياسات المرور والاختباء.
حنين: لم يتواجد المجتمع الكويري الفلسطيني خارج السياق الاستعماري قط، وهناك خرافة أخرى يروج لها الغسيل الوردي عن أنه يمكنه الدخول إلى “إسرائيل” أو أنه يمكن تقبله بها على الرغم من هويته الفلسطينية، وكما يقول أحد أصدقائي ساخراً من ذلك “أيعني هذا أن للجدار العازل أبواباً وردية؟”. هناك وهم بأنه يمكن تجاوز الحواجز الاستعمارية لكن الواقع غير ذلك؛ فحتى وإن أمكن تجاوزها، لن يتغير شيء، وستظل ديناميكية العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر قائمة؛ فقد بادرت مجموعات إسرائيلية معنية بالدفاع عن حقوق الميم عين+ بالتواصل مع المثلي الفلسطيني وقدمت له وعوداً وهمية أدت في النهاية إلى تغريبنا أكثر عن مجتمعنا وأخفقت في الوقت ذاته بالطبع في تغيير واقع العنف.
عندما اتصل بنا الناس للمساعدة، لم نقدم الوعود، على العكس من بعض المجموعات الإسرائيلية، كما لم نتخلَّ عن المجتمع الكويري الفلسطيني، لكننا كنا أكثر واقعية في الإقرار بأننا لا نملك القوة بصفتنا منظمة معارضة للدولة ومناهضة للاستعمار. وبأخذنا موقفا سياسيا، لا يمكننا العمل مع مجموعات صهيونية إسرائيلية أو من هم أسوأ، الاستخبارات، حتى وإن تمكن أحدهم من عبور الحدود الاستعمارية للفرار من بعض أعمال العنف المروعة، فإن الخطوات التالية أكثر رعباً؛ فبالأساس، تعمل مجموعات الميم عين الإسرائيلية – التي تدّعي أنها تساعد في الكويري الفلسطيني – بشكل وثيق مع الشاباك، وبعد السماح له بالحصول على مساعدة بعض هذه المجموعات، تكون الخطوة التالية إجراء مقابلة مع أفراده حول علاقاتهم/ن بعائلاتهم/ن، ثم تكشف هذه المجموعات عن هوياتهم/ن وميولهم/ن لعائلاتهم/ن حتى لا يتمكنوا/يتمكنّ من العودة أبداً إلى فلسطين، وعندما ينتهي تصريح إقامتهم/ن أو لا يصدر لهم/ن أصلاً، لن يتمكنوا/يتمكنّ من فعل ذلك.
إليزا: أريد أن أشير إلى مهرجان تل أبيب – يافا الدولي للأفلام الكويرية الذي أُقيم في ديسمبر/كانون الأول 2023؛ فهو أكثر إشكالية من المثال المذكور أعلاه، حيث ضمّ أعمالاً لبعض المخرجين/ات الفلسطينيين/ات، لكنه في الوقت ذاته ينكر المقاومة بشدة ويقول عنها في بيان له “هؤلاء ليسوا مناضلين/ات من أجل الحرية، بل قتلة بشعين”، ومن الواضح أن المنظمين/ات له متأثرون/ات بحملات الغسيل الوردي، لكني أريد مناقشة سياسات المشاركة في مثل هذه الفعاليات، لا سيما في الوقت الحالي.
موسى: أولاً، أريد أن أتطرق إلى الادعاءات الواردة في هذا البيان عن أن المقاومة تلقي “بأفراد الميم عين من فوق الأسطح” وهم “يكبّرون” وأن عليهم “السعي من أجل السلام”؛ فهذا البيان ينطوي على كراهية للإسلام (الإسلاموفوبيا)، ويُلبس حماس ثوب داعش، ويُغفل ما تقاتل من أجله المقاومة والوسائل التي تستخدمها، كما يشير إلى العديد من الفئات التي تناضل من أجل حرياتها، بينما ينكر حق الشعوب المحتلة والمضطهدة في المقاومة، وأخيراً، فإنه يذكر العديد من النقاط غير ذات الصلة وغير المثبتة.
وللأسف يستخدم هذا الغسيل الوردي السينمائي الفلسطينيين/ات – من شخصيات، ومخرجين/ات، وعاملين/ات – بوصفهم أداة لتبييض صورة الصهاينة في المهرجان ووسائل الإعلام على حد سواء؛ فقد أعطوا الجائزة هذا العام لمخرج فلسطيني كويري وسط الإبادة الجماعية التي يرتكبونها، وعام 2017، ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية المخرجتين الفلسطينيتين ميسلون حمود وسميرة سرايا، اللتين شاركتا في المهرجان بصفات مختلفة، في سياق دفاعها عن المهرجان ضد ادعاءات الغسيل الوردي.
حنين: هذا المهرجان مثال على نفاق المنظمات ومجموعات الميم عين الإسرائيلية، وهي ليست جديرة بأي اهتمام، لكنها طالما لعبت دوراً كبيراً في الغسيل الوردي، وقد كنا أول من تحداهم في حملة منظمة تدعو من يصنع الأفلام على المستوى الدولي من أفراد مجتمع الميم عين إلى مقاطعة المهرجان، ومن وقتها، تشير الجملة الأولى من البيان الافتتاحي لموقعهم على الإنترنت إلى مدى اهتمامهم لأمر المجتمع الكويري في فلسطينيين، ويثبت عملهم خلال العقد الماضي وبيانهم حول أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول مدى تخلف قيادتهم، وكراهيتها للإسلام، وعنصريتها؛ فهم ليسوا مجرد أفراد ينكرون للإبادة الجماعية الحاصلة فحسب، لكنهم المشروع الصهيوني الليبرالي الناعم الرئيسي الذي يقود الدعاية.
هناك شيئان إضافيان يجدر ذكرهما هنا، الأول، أن المهرجان نظم أثناء الإبادة الجماعية، مع ادعاء بأن القلوب حزينة بسبب ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وترديد “البروباغندا” المتخلفة التي ذكرتَها بالفعل بلا مبالاة بمقتل عشرات الآلاف من سكان غزة، بمن فيهم المجتمع الكويري، والثاني، أن جائزة خاصة مُنحت لمخرج فلسطيني كويري، وأنا أستغرب كيف يمكن لصانع أفلام فلسطيني قبول هذه الدعوة وهذه الجائزة في الأوقات “العادية”، ناهيك عن إبادة جماعية؟ يبين لنا ذلك أن الكويرية هوية فارغة من المضمون إذا لم تكن هناك التزامات سياسية مشتركة.
وعندما أخبرني أحدهم عن استضافة “سينمجي” لصانع الأفلام هذا، فكرت في الانسحاب من هذا الارتباط، ولن ينمحي هذا الشعور أبداً، والحجة القائلة بأنه ينبغي عرض جميع الأفلام، حتى وإن لم نتفق معها، لم تعد صالحة سياسياً، وأعتقد أن اختيار استضافة أفلام ممولة من إسرائيل على الرغم من دعوات المقاطعة ثم ادعاء أنها تُعرض لأنها تتحدث عن المجتمع الكويري العربي وتناقش قضاياه من منظور مناهض للاستعمار يشوّه معنى النضال العملي الساعي إلى إنهاء الاستعمار ويروج بشكل غير مباشر للغسيل الوردي.
موسى: أتفق على أن تنظيم البرامج حول الهوية “الكويرية العربية” أمر استشراقي، وقد شكل ذلك مشكلة عندما كانت معظم الكيانات الكويرية في المنطقة، حتى عام 2017 أو 2018، (عندما تأسست سينمجي) تركز على الأفلام الكويرية الغربية التي كانت تتفق معها، دون نقاش في الغالب، وقد أعطى هذا انطباعاً خاطئاً بأن اللامعيارية الجنسية لا يمكن أن يكون لها وجود إلا في “الغرب”، ولم يسمح بوجود مساحة لتقديم نقد كويري خاص بالمنطقة.
لكني أرى أنه من المهم عرض الأفلام – لا سيما تلك الناطقة بالعربية والمتعلقة بالجنسانية والجندر، حتى تلك التي نختلف معها – وإجراء نقاشات حول أساليب التحليل والنقد النسوية والكويرية والمناهضة للاستعمار؛ فأشكال المعرفة هذه محدودة، لا سيما باللغة العربية، وتتيح هذه الصيغة استعادة المشاهدين/ات السيطرة على ما تعرضه الشاشة، وعرض أفلام فلسطينية إسرائيلية التمويل بهذه الطريقة، حيث يكون الهدف هو النقاش والنقد في عرض خاص يجنّبنا حماية أدوات الغسيل الوردي هذه عن غير قصد، وهذا، برأيي، لا يخالف المقاطعة، بل يثري الحجج الداعية إليها بوجه عام.
لا أعلم كيف لا يزال لديّ أمل في التغيير بعد كل هذا وأعتقد أننا بحاجة إلى كل صوت لتحرير الشهوة المحلية وتطهيرها من الاستعمار، وآمل أن يجد هذا المخرج الفلسطيني مكانه في هذا النضال، وأعلم أن الكثير من الناس شاركت (عن قصد وعن غير قصد) في مشاريع ووثائقيات اُستخدمت في الغسيل الوردي الإسرائيلي، ثم انخرطت في النضال ضد الغسيل الوردي، وقد تعلمت الكثير من تجربتها.
القيم والتنظيم “في زمن الإبادة الجماعية”
إليزا: يبدو الآن أن العالم يشكك في قيمه وفي معنى العدالة، والمؤسسات التي تدعي أنها تمثلها، وممارسات التنظيم الفعال، وفي ضوء ما سبق، ربما يمكننا التفكير في شكل التنظيم المناهض للاستعمار والإمبريالية، والمضي قدماً.
حنين: كان “النقد” الأكثر استخداماً من مجموعات الميم عين الإسرائيلية (بوصفه جزءاً من جهود غسيلها الوردي) ضد جمعية القوس متمحوراً حول خرافة أننا أهملنا الكويريين/ات العرب لأننا “انشغلنا” عن ذلك بمحاربة الاستعمار، وكان هذا هو جوهر الغسيل الوردي المحلي، وهو تكتيك عنيف للاستعمار ساهم في بث الانقسام في حركتنا، لا سيما عندما كرر الكويريون/ات ومن يعمل في النشاط السياسي والأكاديميا والفنون من العرب هذه الحجة الصهيونية الكارهة للمثلية، وكان الأمر كما لو أن من يعمل في الجمعية ليس كويرياً ولا يواجه القمع ذاته (من المثير للاهتمام، أننا، في انتقادات أخرى، لم ننتمِ إلى فلسطين بما فيه الكفاية)، وتستند بعض النصوص الأكاديمية الشهيرة – التي تحتفي بها أوساط كويرية الآن – إلى حجج الغسيل الوردي هذه.
أجد صعوبة في تقبل أن خطابنا ربما يكون قد ساهم في تضاؤل القيم الأساسية، وقد ذُهلت خلال سنوات عملي في مجال التنظيم بالسرعة التي تغسل بها المجموعات القيم، فعلى سبيل المثال، عندما تقضي المجتمعات الكويرية في فلسطين ساعات في مناقشة الخصوصية بدلاً من الترحيب بالأعضاء الجدد والالتزام بالتوعية، بدا الأمر وكأن فكرة السلامة كانت أكثر أهمية من احترام الأشخاص ممّن هم في حيرة من أمر الميل الجنسي الخاص بهم.
وفي ظل الاستعمار وكل هذه النُظُم، يجب أن نفكر في قيمنا، وكيف نحميها، وكيف نقاوم تحولنا إلى مجرد مشروعات أو خطاب، فنحن بشر نلتقي وتحدث بيننا تفاعلات، ويجب تنظيم ذلك من خلال القيم لاالخطابات السياسية.
موسى: في العراق، قال الأمريكان إنهم كانوا يحررون الـمثليون، لكنهم في النهاية قالوا إنه “ترف للمواطن العراقي العادي أن يقلق بشأن المثلية”، نافين سلسلة حملات القتل التي استهدفتهم. وعام 2003، صرح بوش قائلاً إنه لن يكون هناك المزيد من “غرف التعذيب وغرف الاغتصاب” في العراق، في إشارة إلى استخدام النظام العراقي للتعذيب الجنسي في السجون، وبعد عام واحد بقليل، ظهرت صور سجن أبو غريب. المستعمِرون مهووسون بالجنس، لا سيما الجنس الشرقي “الإيكزوتيك” غير الرضائي و”الجنسانية”، لا بحقوق الإنسان.
أعتقد أن علينا التخلص من السياسات الغربية، أو على الأقل الاعتماد عليها بشكل أكثر انتقادية وانتقائية، حتى نتوصل إلى طريقة للتنظيم تستند إلى تجاربنا وتاريخنا، وهذا هو حال التنظيم الثوري والتحرري.
كل شخص أو كيان مارس الضغط لوقف الإبادة الجماعية مهم، وهذا هو ما دفع إسرائيل إلى الإعلان عن واحدة من أكبر الحملات الرقمية الكارهة للمثلية التي شهدتها في حياتي، لكن هذه ليست سوى البداية؛ فقد دمرت إسرائيل أي أمل في إنهاء استعمار سياسات الهوية الكويرية عندما استخدمتها لتبرير الإبادة الجماعية، وإذا ما أردنا أن نحدث تغييراً جذرياً، فإننا بحاجة إلى تغيير هياكلنا واستراتيجياتنا، وعلينا العودة إلى تاريخنا الإسلامي لنرى ما قد نجح ونتخيل طرقاً جديدة للمضي قدماً.
- حنين معيكي منظمة كويرية نسوية فلسطينية ومؤسسة مشاركة في منظمة المجتمع المدني الفلسطينية جمعية القوس ومديرة سابقة لها.
- موسى الشديدي كاتب وباحث عراقي متخصص في دراسة الشهوة بعدسة إسلامية مناهضة للاستعمار، وله عدة كتب منشورة منها “المثلية الجنسية في غزو العراق” (2020) ومقالات على منصات عدة، منها ماي كالي وكحل وحبر.
- وهي تمثل ترجمة لأحرف LGBT بالإنجليزية التي ترمز إلى المثليين والمثلييات ومزدوجي الميل الجنسي والعابرين والعابرات جنسيا وجندريا.
- جوزيف مسعد، الإسلام في الليبرالية، مطبعة جامعة شيكاغو، 2015، ص. 256.
- أودري لورد، مقال “أدوات السيد لا يمكنها هدم منزله”، 1985، من كتاب “أخت دخيلة: مقالات وخطب”، دار كروسنغ برس، 2007، ص. 110-114.
- جوزيف مسعد، اشتهاء العرب، مطبعة جامعة شيكاغو، 2007، ص 45.