English

بقلم: حمزة بن سودة
صور: أرشيف مؤسسة سميثسونيان الافتراضي عبر الإنترنت
هذا المقال من عدد عقدة الواوا

خطوة إلى الوراء: من البطاقات البريدية إلى الاستشراق
كان المغرب العربي مصدراً حياً للدهشة بقدر ما كان مساحة لنشر “التحضر” لكل من المستعمرين الفرنسيين الذين دخلوا حي “بوسبير” في المغرب أثناء فرض الحماية (1912-1956)، أو الذين تاهوا في شوارع الجزائر العاصمة المزدحمة التي كانت خاضعة للاحتلال بين عامي 1930 و 1962، أو الذين تلهفوا إلى منظر البحر الأزرق وهو يعانق السماء في ميناء تونس العاصمة في فترة فرض الحماية على تونس (1881-1956)، وقد صيغت وأُتقنت كلغة بصرية موحدة للوحات التي رسمها فنانون بارزون تلك الفترة، مُزدانة بالأوهام ومُزينة بالاستشراق وبالأنماط الداغيرّية1 التي اتبعها المسافرون إلى هذه البلدان، وقد ساهم انتشار هذه الصور والأعمال الفنية في الغرب في إضفاء الطابع الشبقي على المغرب العربي، وتبرير المشروع الاستعماري الفرنسي، وتوجيه السياحة في المناطق المحتلة نحو فرنسيي العاصمة.

تبرز البطاقات البريدية بين هذه الأشكال من الصور والتمثيلات المرئية، وقد اُستخدمت هذه البطاقات على نطاق واسع لتبادل شهادات بتجارب المستوطنين من الجانب الآخر للبحر المتوسط: التعبير عن الحب، مثل كتابة أحدهم لحبيبته “أفكر فيكِ”، أو شكوى شخص يُدعى موريس لصديقه من “الجو شديد الحرارة والعمل الكثير”، أو تمنيات أحدهم لشقيقه بـ “عام سعيد وصحة جيدة”، لكن على الجانب الآخر من البطاقات، يمكن للمرء أن يرى موضوعاتها المزعجة؛ فهناك نساء عاريات الصدور – أحياناً بمفردهن وأحياناً في مجموعات وأحياناً يرتدين الأقراط والمجوهرات – متكئات في كسل ومكشوفات أمام عين الناظر.

أصبحت هذه الصور التي تكشف عن الاختلالات الجسيمة في القوة والتشييء اللذين يفرضهما الاستعمار نقطة محورية في دراسات ما بعد الاستعمار، ولا تشي بالمشروع الاستعماري فحسب، بل بحقيقة الاستشراق حتى الآن.

دعمت هذه التمثيلات ذات الطابع الجنسي التي كانت تُوزّع في الحامية والعاصمة الرؤية الاستعمارية للنساء المغاربيات بوصفهن نساء عربيات، وهذا تعميم مبسط، وبعد كشف النقاب بعناية عن القبايل، قُدمت أجساد النساء المغربيات والتونسيات إلى العاصمة، مع إبراز صورة النساء المغاربيات على أنهن خطيرات، وشهوانيات، وجنسيات يسهل على الحكومات والسلطات الاستعمارية الاستحواذ عليهن، وقد ظلت هذه الصور موجودة في المخيلات والتفسيرات الغربية للشرق حتى يومنا هذا، على الرغم من أن المرأة التي تُقدم للغرب اليوم هي المرأة بعيدة المنال خلف حجابها؛ ففي الفرنسية مصطلح “بوريت”2 الواصم والازدرائي، وهو مؤنث “بور” المشتق من عكس حروف كلمة “عرب” التي تعني “الشخص العربي”، وسواء في لوحات بنيامين كونستانت الاستشراقية في القرن التاسع عشر أو في عمليات البحث المعاصرة على المواقع الإباحية، فالفكرة هي نفسها: غرضاً من أغراض الخيال، وامرأة فاتنة غاوية، وأحياناً ساحرة، وفي أحيان أخرى عاهرة، ودائماً سهلة المنال.

صورة: أرشيف مؤسسة سميثسونيان الافتراضي عبر الإنترنت

كتب الكثيرون/ات عن تأثير التمثيلات كتلك الموجودة على البطاقات البريدية الاستعمارية على تشكيل صورة هذه “المرأة المغاربية السهلة” في فرنسا والغرب، بمن فيهم/ن مارنيا لازريغ في “بلاغة الصمت” (كامبريدج، 1994) وسليمة تنفيش وسارة دفلة في “نساء عربيات: خيال فرنسي” (مطابع لو سول، 2021)، ومع هذا، أُولي القليل من الاهتمام لتأثير هذا الانتشار للقطع الفنية، والأفكار، والقوالب النمطية الاستعمارية في العالم غير الأوروبي، لا سيما في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا؛ فالقوالب النمطية الناتجة ليست منتشرة بالقدر ذاته كما في الغرب، لكنها أحياناً ما تدعم الحجج القانونية التي تقيد حقوق النساء العربيات والمغاربيات وحركتهن.

النظرة الجنسية إلى النساء المغاربيات في العالم العربي
هناك العديد من الأمثلة التي ترتبط فيها صورة المرأة المغربية ارتباطاً وثيقاً بالمتعة؛ فالمسلسل السعودي “شير شات” (2018) يُظهر امرأة مغربية “يسهل شرائها”، وهي هدف للزبائن الذين يرغبون في قضاء ليلة ممتعة أو في “زواج المتعة”، وفي دبي، أصبح وجود “امرأة مغربية” نقطة بيع للحفلات الخاصة باعتبارها ضماناً للمتعة، وبالمثل، تدعي بعض النساء أنهن مغربيات، على سبيل المثال، عاملات الجنس السوريات أو اللبنانيات في عمّان، وقد أسرّت لي إحدى عاملات الجنس الأردنيات قائلةً إن وصف “مغربية” لها سحرها في العالم العربي.

كما في حالة الاستعمار، لم نعد نتحدث عن النساء المغربيات بل عن المرأة المغربية، وهذا اختزال جوهري يُرضي من يستمتعون به ويخدم الرأسمالية الجنسية التي اُبتليت بها المنطقة، وعلاوة على ذلك، ينطبق الأمر نفسه على المرأة التونسية في منطقة الخليج حيث تمثل “امرأة يسهل الوصول إليها أكثر من اللبنانيات المشاكسات”، كما يقول أحد منظمي الحفلات الخاصة في دبي، وهكذا، يُنظر إلى النساء على أنهن أغراض لإشباع الرغبة تتحول تدريجياً إلى أغراض رأسمالية استهلاكية؛ فبنيتهن الجسدية، ومقاسات أجسادهن، وأصولهن موضوع للتعليق وهدف للتخيلات، ومثل أي غرض آخر، فإنهن يُوصفن وفقاً لسلسلة من الفئات التي تضعهن موضع المنافسة وتشيد بمزايا بعضهن على البعض الآخر، وهذه عملية استعمارية كارهة للنساء ومثيرة للاشمئزاز تتفاقم مع ظهور جنسيات أخرى في بلدان أخرى.

صورة: أرشيف مؤسسة سميثسونيان الافتراضي عبر الإنترنت

لا تقتصر هذه الصورة على العنف الرمزي، وهو مدخل إلى العنف الجسدي، بل يظهر تأثيرها في القوانين التي تحكم دخول النساء المغاربيات إلى مناطق معينة؛ ففي عام 2019، مُنعت الرئيسة المغربية لشعبة العدالة الجنسانية بمنظمة (أوكسفام) “مونيا سملالي” من دخول الأردن، وفي نهاية عام 2021، مُنعت طالبة مغربية تُدعى “كاميليا” من الدخول إلى البلد نفسه بقصد الدراسة، وفي الحالتين، يتضمن دليل معلومات السفر الذي يسرد شروط الدخول إلى البلاد مربعاً محدداً وخارجاً عن المألوف يذكر أن النساء – لا سيما المغربيات – اللاتي تتراوح أعمارهن بين 16 و36 عاماً يحتجن إلى الحصول على موافقة من وزارة الداخلية إن لم يكن برفقتهن محرم ذكر من أسرتهن.

تتجلى آثار هذه الصور أيضاً في الطرق التي يشيئ بها الأشخاص الذين يديرون هذه القوانين النساء المغاربيات، وتكشف شهادات عدة نساء مغربيات عن أنماط من التجارب؛ إذ تروي شابة مغربية أن السبب في رفض دخولها الأردن هو “لأنكن يا مغربيات تأتين لممارسة الدعارة وتفسدن التقاليد” كما قيل لها، وتذكر امرأة تونسية أنها كانت هدفاً للتعليقات الذكورية من جانب ضباط الجمارك في مصر الذين قالوا لها “أنتن أيها التونسيات جميلات للغاية”.

بهذا، نجد أن الكليشيهات الاستشراقية، والذكورية، والتي تنظر إلى النساء نظرة جنسية قد انتشرت عبر المنطقة لتشكل أساساً للتمييز ضد النساء المغاربيات اللاتي يُنظر إلى أجسادهن نظرة جنسية ويُعاملن على أنهن قاصرات في الغرب والشرق، ولا تزال هذه الديناميكيات التي شكلتها الموروثات الاستعمارية وانتشرت عن طريق الصور والقطع الفنية الثقافية تتكشف اليوم، ومع هذا لا تتحمل أوروبا، أو مناطق أخرى في جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا، أو الرأسمالية الجنسية وحدها المسؤولية عن هذه الديناميكيات؛ فالحكومات المغاربية تلعب دوراً في هذا أيضاً.

صورة: أرشيف مؤسسة سميثسونيان الافتراضي عبر الإنترنت

الموروثات الاستعمارية تابوهات خاضعة للرقابة في المغرب العربي
لطالما كان حي “بوسبير” في الدار البيضاء، الذي يُطلق عليه (ديزني لاند) الجنس في المغرب، ملاذاً للبغاء؛ فقد شُيّد لإرضاء جنسانية المستعمرين وكان مكاناً تُحضَر إليه النساء المغربيات لممارسة البغاء وتُشجعّن على فعل ذلك، والعديد من البطاقات البريدية الاستعمارية التي يمكن العثور عليها اليوم تصور بفخر هذا الحي، وقد دفع هذا باحثين اثنين من جامعة جنيف إلى إقامة معرض في الدار البيضاء (2022-2023) لمناقشة صورة المرأة خلال فترة الاستعمار، إلا أنه قد أُلغي قبل يوم من الموعد المحدد لافتتاحه وصُودر الكتاب المتعلق بالمعرض ومُنع توزيعه دون إبداء أي أسباب، ولا يقتصر منع هذه المناقشات على المجتمع المغربي أو الحكومة المغربية فحسب؛ ففي الجزائر، أُحرقت معظم البطاقات البريدية دون أي نقاش للإرث الاستعماري الذي تمثله، وتشير “مارنيا لازريغ” إلى أنه على الرغم من أن البحوث المتعلقة بالنساء الجزائريات أثناء الاحتلال الفرنسي “لا تزال مجالاً خصباً وواسعاً”، إلا أنه نادراً ما يحدث تحقيق فيها.

تبرز مسألة حماية أجساد النساء في المغرب العربي والتصورات النمطية لهن، لكنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالاستعمار لدرجة أن الحكومات المغاربية تنزع إلى تجنبها، وما هو أسوأ، في حالة رفض منح التأشيرات استناداً إلى حجج متحيزة جنسياً، كما في حالة كاميليا، هو أنه يبدو أن القضايا الدبلوماسية تحل محل كرامة الجسد؛ فلم يصدر أي رد رسمي على الرغم من التصريحات الإعلامية العديدة، وإذا كان لهذا التشييء وهذه النظرة الجنسية جذور عميقة في الانتشار الاستعماري، فما يضمن وجودهما المستقبلي هو عدم وجود رد من الحكومات المغاربية حيث غالباً ما تخضع مسألة الجنسانية للتابوهات وتُتجنّب المحادثات المتعلقة بذلك.

يبدو أن الاستجابات المجتمعية لحركة “أنا أيضاً”3 في تونس “أنا زادة”4، والجدل المحتدم حول الأفلام المغربية التي تناقش الحياة الجنسية (مثل أفلام نبيل عيوش) والرقابة الجزائرية المفروضة على المناقشات المتعلقة بالحياة الجنسية تمثل عقبات إضافية أمام المناقشات الدائرة حول إرث التمثيلات الاستعمارية للنساء، لكن هذه الرقابة قد تستند إلى ما تقوم به المجتمعات المحافظة من لعب دور الرقيب وتأويل المناقشات النسوية (والكويرية) الدائرة حول هذه القضايا باعتبارها أخطار تهدد السلام المجتمعي ومستوردة بالكامل من الخارج، غير أن التاريخ يتذكر مَنْ ينظر إلى مَنْ نظرة جنسية.

  1. نوع من التصوير يُنسب إلى مخترعه الفرنسي لويس داغير
  2. أو “بوريت” مصطلح ازدرائي في اللغة الفرنسية يشير إلى النساء العربيات بطريقة مهينة أو جنسية, Beurette
  3. #metoo
  4. #enazeda