بقلم ناد سلام
العمل الفني: جواد ح
هذا المقال من عدد عقدة الواوا
تتذكر العديد من العوائل السعودية بحرقة صور ذويهم/ن التي حرقت نتيجة لتفشي فتاوى تحريم الصور الفوتوغرافية، ولكن العالم يمضي ولا يأبه بذلك، كان من المحرمات ومن ثم أصبح مباحًا لضرورته، وكذلك كان الهاتف الأرضي والتلفاز والإنترنت ومن ثم الهواتف النقالة التي تحمل الكمرا وخاصية “البلوتووث”، ومن الجدير بالذكر أن التقنية الأخيرة كانت من الوسائل القليلة التي لم تتمكن السلطات من ممارسة الوصاية على المحتوى المشارك من خلالها، نظرًا لعدم ارتباط الأداة بالإنترنت، وكأي تقنية كانت تتيح للسعوديين/ات رؤية العالم الخارجي والأهم من ذلك رؤية ما قد يحصل فى الخفاء أو فى العلن داخل مجتمعهم/ن، قد قُبلت في البدء بالوصاية الرقابية والتحريم الممنهج وبالتالي الوصم المجتمعي كنتيجة لذلك.
رغم ضبابية الذكريات، أحاول في هذا المقال أن أتذكر كيف كانت تبدو جنسانيتي وشهوانيتي فى فترة المراهقة، وتلك العزلة التي دفعتني للبحث عمن يشبهني، وكيف كان يبدو البحث من خلال الإنترنت أو عبر تقنيات التواصل المشابهة كالبلوتوث عن هويتي كعابرة سعودية قبلية من الطبقة العاملة، قبل أن تتكون لدي لغة بعد لوصف جسدي والتواصل معه ومع العالم المحيط به.
غزوة البلوتوث:
يقول John Berger (ناقد فني وروائي ورسام) فى سلسلته الوثائقية “الطرق التي نرى بها” عام 1972من إخراجه بالشراكة مع Mike Dibb1 عن التصوير
إن الطرق التي نرى بها لوحة أو أي شيء آخر ليست بالعفوية والبساطة التي نعتقدها، فزاوية الرؤية أو وجهة النظر تجعل العين مركزًا لرؤية العالم الظاهر أمامها، ولكن العين البشرية لا يمكنها أن ترى أكثر من مكانًا واحدا فى الوقت نفسه. فالعين تأخذ العالم الظاهر أمامها معها أينما ذهبت. ومع اختراع الكمرا كل شيء تغير، أصبحنا قادرين على رؤية أشياء لم تعد موجودة أمامنا، المظاهر المرئية أصبحت قابلة للسفر خلال العالم، وهذا غير الطريقة التي نرى بها المرئيات من مشاهد منصبة على مركز رؤية واحد كعين الفرد المجردة غير القادرة على تخزين المشهد وحفظه وعلى عكس المشهد الصامت فى اللوحات الزيتية الجامدة الكمرا قد تعطي طابع الصوت وأبعاد عديدة أخرى لما تلتقطه عدستها.
العمل الفني: جواد ح
كل أشكال الوسائل والوسائط السمعية والمرئية وحتى الكتابية التي قد تتيح إنتاج معرفي أو توثيقي أو ترفيهي خارج إطار رقابة الجهات الرسمية محرمة ومشيطنة داخل المجتمع السعودي، خصوصًا مع بدء قدوم وانتشار هذه الوسائل، ولم يكن ذلك فى فترة “الصحوة الإسلامية” في الثمانينيات فقط، كما يعتقد البعض، بل كان التحريم والتخويف عبر العقود وسيلة أساسية ومستمرة لتسيير الرأي العام، ليبقى المجتمع فى الظلام غير قادر على تكوين صورة تمثل انعكاسه، وما أعنيه بذلك ألا يكونون قادرين/ات على رؤية الآخر وبالتالي رؤية أنفسهم/ن في منظور أوسع. حيث أن الوعي بالذات تجربة جمعية لا فردية وهذا ما قد لا يتسق مع الرؤية الأبوية المحلية التي تهدف إلى تنميط الشعب وابتذالهم/ن فى أدوار مسبقة الصنع ومعلبة بشكل مؤسسي.
تحت أكذوبة المجتمع المحافظ يأتي التحريم فى الأساس من الخوف أن المتلقين/ات لهذه الوسائط قد يتطور لديهم/ن صوت ذاتي وحس نقدي أو فني قد يهدد رمادية المجتمع السعودي الذي روض على الرفض والإنكار كردود فعل أولية دائمًا، وذلك ليس بالضرورة بالاختيار، ولكن بالقوة الجبرية المنظمة التي أتاحت لهذا النوع من الفتاوى المسيسة التي تشحذ الإيمان كسلاح قاطع وأن تتحكم بحياة المواطنين/ات وهوياتهم/ن وكيف يوثقونها، مما يعني أن المجتمع السعودي ليس مجتمع محافظ بالضرورة ولكنه مجتمع صامت قسرًا، مثالًا على ذلك، المنشورات الدينية التي كانت فى كل شارع وكل سوق عن سكرات الموت أثناء مشاهدة التلفاز وسماع الأغاني أو المغازلة عن طريق إرسال رسائل
نصية وأغاني أو فديوهات من خلال تقنية بلوتوث، كأن الخوف سيد الموقف دائمًا وراعي القطيع.
علاقة مجتمع الميم\عين عامة والعابرين/ات جندريًا منهمن خاصة فى السعودية مع عدسة الكمرا علاقة معقدة ومتشعبة، فالصورة التي توثق لحظة حميمية وربما سعيدة أحيانًا قد تتحول لدليل إدانة يجرمنا على تواجدنا فى داخل إطار الصورة، مثالًا على ذلك، اعتقال نجم/ة وسائل التواصل الاجتماعية السعودي/ة “سهيل الجميل جدًا”، لنشره/ا صورة بشورت سباحة، لت/يواجه عقوبة سجن لمدة 3 سنوات قضى/ت بعضها، ومن ثم تم إطلاق سراحه/ا لحفظه/ا القرآن أثناء فترة اعتقاله/ا، ولكن على الرغم من أن الصورة قد تكون دليل جنائي يطارد اللانمطيين/ات جندريًا فى السعودية ولكنها لم تكن دائمًا بالضرورة كذلك.
العمل الفني: جواد ح
اكتشاف المتعة الرقمية:
فى وقت ما بين سنة ٢٠٠٤ و٢٠١٠ أمام شاشة الكمبيوتر المكتبي العريضة وخلف لوحة مفاتيحه المهترئة كنت أملك كلمات قليلة جدًا وأحيانًا مسيئة ومحدودة لوصف هويتي أو جسدي والأجساد والهويات الأخرى التي تتشابه معه: مخنث، خكري، جنس ثالث، إخوانية، لوطي، متشبه بالنساء. كلمات تعلمتها فقط بنبرة إدانة، لم أكن أعلم بعد أن اللغة قد تكون قلمًا فى يدي بدلًا من سوط على ظهري – أو لوحة مفاتيح فى هذه الحالة- فى سن البلوغ المبكر كنت بدأت أشعر وكأني كائن فضائي قميء، فالمطالبة والتوقعات الملحة من الجميع أن أتصرف كرجل الان وفورًا أشعرتني بالفشل والنبذ، وحتى حين تمكنت قليلًا من مجاراة القواعد النمطية للذكورية السمومية فى محيطي لم أكن سعيدةً بذلك، علمت أنني أؤدي دورًا أو أخفي سرًا يعرفه الجميع مسبقًا ويتشاركون إخفاءه، كانت رجولتهم المفروضة علي لجامًا من الصمت وكانت خنوثتي قنبلة مدوية وموقوتة.
عرفت حينها ولأول مرة كيف يكون شعور نوبات الهلع، وبالطبع لم أكن أعرف كيف أصف الشعور الذي كان يعتصر قلبي، كنت أخبر والداي عند كل نوبة هلع أنني على وشك أن أفارق الحياة “أحس كأني بموت، أحس كأني بموت” كانوا يظنون أني مسحورة أو محسودة، إجاباتهم لم تشفي غليلي، كنت أعلم أن هنالك شيء ما أجهله، كل هذا الدخان فى صدري يستحيل أن يكون بلا نار، وهي مسألة وقت حتى تكتمل الصورة، لم أعلم أني كنت أنمو كعابرة جندريًا وأكبر ولكن بطريقة مؤلمة جدًا نظرًا لكل القواعد التي فرضوها والحواجز التي شيدوها على جسدي المراهق.
بفضول طفلة وببطن مليئة بماء زمزم المبارك كنت أزور منزل عمتي لاستخدام حاسوبهم المنزلي، وأردت أن أرى على الشاشة ما يشبهني، ربما كانت رغبة بعيدة المنال وربما كانت رحلة بحث عن الشعور بالانتماء والألفة.
كانت مشاعر جديدة ووليدة اللحظة بلا معاني أو أسماء محددة بعد، فى كل مرة كانت عمتي تكتشف بها ما كنت أشاهده خلسة، كانت تنظر للمخنثين كما وصفتهم/ن يتمايلو/ن وراء الشاشة فتشد قبضتها على قميصي صارخةً فى وجهي وهي تجرني: ما هؤلاء؟ هل هذا رجل؟ هؤلاء ليسوا رجالًا بل مخنثين، ما هؤلاء؟ ومن ثم تنادي عمي وتكرر السؤال: اسألك بالله هل هذا يبدو لك كرجل؟ أتعلثم ومن ثم أفلت من قبضتها الضخمة وأهرب إلى الشارع، لحسن حظي لم تشي بي لوالدي.
العمل الفني: جواد ح
ملكات البلوتوث:
تسكن الذاكرة الرقمية للمواقع الإباحية ومحرك بحث يوتيوب وحقبة البلوتوث العديد من الفديوهات التي توثق اللانمطية الجندرية لعدة من الشخصيات الكويرية السعودية التي كانت مشهورة محليًا ورقميًا من مختلف الفئات العمرية، وهذا يطرح السؤال الأخلاقي إذا ما كانت هذه الفديوهات منشورة بموافقة وتراضي نجومها؟
على الرغم من اللعن والرفض المجتمعي والتهديد الأمني فى حالات كثيرة، ووصفهم بـ”ظاهرة الجنس الثالث” لاقت هذه الفديوهات الإيروتيكية لجنسانية اللانمطيين/ات جندريًا رواجًا كبيرًا بل وأكاد أصفه بالهوس بالأشخاص اللانمطيين جندريًا فى بيئة تحكم الثنائية الجندرية نمط حياتها. فى مثال على هذا النوع من الفديوهات كان توثيق الرقص بحفلات “الشكشكة” وهي بالعادة مساحات لحفلات الرقص الخليحي يكون جميع الحاضرين/ات بها من الراقصين/ات بطبيعة حال الفصل الجندري مصنفين/ات ذكورًا عند الولادة بإختلاف هوياتهم/ن وتعبيراتهم/ن الجندرية والجنسية، كانت تبدو كمساحة قد تحتفل بجنسانية هذه الأجساد اللانمطية بشكل علني.
يرتدي بعض الحاضرين/ات فى ساحة الرقص الثوب السعودي بشكل مختلف يجعله أشبه بالفستان، ضيق حول الخاصرة والأرداف وقد يظهر نتوء أثداء أحيانًا، إنه مصمم بهذه الطريقة خصيصًا للرقص وإبراز المفاتن، حين أشاهد هذه الفديوهات تبدو لي وكأنها خيالية بالرغم من أنها ليست فى الماضي البعيد، ولكن الطريقة التي يصور بها بالمجتمع السعودي اليوم كمجتمع يصنف المثلية الجنسية واللانمطية الجندرية أفكارًا دخيلة عليه، فى محاولة لمحو تاريخه الكويري ونفي حقيقة أن الحب المثلي والإيروتيكية المثلية هي جزء من ثقافة الشعب السعودي وأغانيه الشعبية وحياة حاراته. يسهل ملاحظة شهوانية الرجال وهم يرقصون مع الراقصين/ات الآخرين/ات الأكثر أنوثة، وبين تمايل الخاصرات وصفع الدفوف تكمن لحظة تجلي شهوانية خارج حدود العار المجتمعي، لا يمكن للرقابة حجبها مهما بعثت من خوف فى نفس المشاهدين/ات.
كنا نتبادل الرسائل عن طريق البلوتوث وشرائح الذاكرة الرقمية ذاتها فى الخفاء، كانت تحتوي على العديد من الأفلام الجنسية المثلية، بعضها كان احترافيًا والبعض الآخر كانت مقاطع شخصية ومسربة لسعوديين/ات من فئات عمرية مختلفة، كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة لمشاهدة أي محتوى جنسي بالنسبة لي فى بداية فترة المراهقة، من الجدير بالذكر أن العديد من هذه المقاطع مازالت تطفو فى الفضاء الإباحي للإنترنت بعد كل هذا الوقت بدون موافقة أصحابها، يعاقب اليوم القانون المعلوماتي فى السعودية المبتزين/ات ولكنه يعاقب أيضًا الضحايا بتهمة حيازة صور أو مقاطع عارية وشخصية لاجسادهم/ن.
بعض الوسائط المتناقلة كانت إباحية مثلية والبعض الآخر كان عبارة عن مونتاج لعابرات جندريًا وهن يرقصن أو يضعن مساحيق التجميل أو ببساطة وهن يسرن فى الشارع أو فى أرجاء الجامعة، وفى هذا الحالة يكون المقطع ملتقط بدون موافقة نجم/ة محتواه وكان يرافق هذه المقاطع الأغاني أو الشعر الغزلي النبطي. يتم تداولها من خلال محادثات الماسنجر أو من خلال معرفات البلوتوث المجهولة فى الأماكن العامة فيتيح المعرف المتلقي إمكانية اكتشافه فى المكان ومن ثم يشارك المعرف المرسل المحتوى أيًا كان، قد تتم هذه العملية أيضًا وجهًا لوجه فى حال كان الشخص محلًا للثقة كانت المشاركة عشوائيًا فى الأماكن العامة محفوفة بالمخاطر كونها وسيلة للمغازلة أو حتى التحرش كذلك وقد يقع البعض فى قبضة “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” سابقًا، التي تضع البيض كله دائمًا فى سلة واحدة وترى كمؤسسة قمعية سلفية أن أي محتوى جنسي أو يلمح للجنس والشهوانية ولو من بعيد، تعده “الهيئة” كممارسة شاذة تهدد المجتمع والأسرة، وكجريمة يجب أن يعاقب عليها القانون من منظورهم وقد تتراوح العقوبة بين مصادرة الهاتف النقال وإمضاء التعهدات إلى التوقيف أحيانًا بل والسجن إذا ما كانت الفديوهات شخصية.
كنت أحاول أن استشعر ردود فعل المشاهدين حولي من الأولاد، أشاركهم الذم أحيانًا وأشاركهم الغزل أحيانًا أخرى. ولكن بشكل جوهري ملكات البلوتوث العابرات فى السعودية ساعدوني على أن أرى انعكاسي من خلال جودة التصوير المشوشة والوصم المجتمعي، رأيت الجمال بهن والنشوة الجندرية الملتقطة خارج السياق العنيف للمجتمع السعودي الذكوري، ساعدتني على البقاء والشعور حينها أنني ممكنة وموجودة في بحر من الاحتمالات اللامتناهية.