بقلم: أحمد عسيلي
Scarlett Coten :العمل الفني
هذا المقال من ملف ‘عقدة الواوا’ – هيكل العدد هنا
تعتبر الرواية في الخليج العربي (آخر العنقود) في تاريخ الرواية العربية، فقد تأخر تبلورها كشكل أدبي له وجوده المميز، نتيجة العزلة التي عاشتها منطقة الخليج قبيل (الفورة النفطية) التي شهدتها تلك المنطقة في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، بل إن دولة خليجية مثل سلطنة عمان، لم يكن لها تواجد على خارطة الرواية العربية حتى عدة سنوات مضت، لتشهد بعدها انطلاقة صاروخية، مع أصوات روائية أخذت مكانا مرموقا، وسريعا على عرش الرواية العربية، مع الروائية جوخة الحارثي التي أصبحت روائية عالمية بفوزها بجائزة البوكر للرواية، وهدى الحمد وروايتها الشهيرة سندريلات مسقط، وذلك على خلاف السعودية، أو الكويت اللتين استطاعتا بسرعة قياسية تطوير أدب روائي ثري جدا له مكانة عربية وعالمية مرموقة، وكرست روائيين يعدون الآن من رموز الكتابة العربية (تركي الحمد وزينب حنفي وبدرية البشر ويوسف المحيميد من السعودية واسماعيل فهد اسماعيل وليلى عثمان وطالب الرفاعي من الكويت) ويمكننا القول، بشكل أو بآخر، أن الرواية كانت أحد ثمار الثروة النفطية، التي خرج عبرها الخليج من قوقعته، ليصبح الأدب إلى جانب العالم والسياسة أحد أذرع القوة الناعمة للخليج.
وكما كان المجتمع سريعا في تطوره، سريعا في تغيير ملامح البلاد وديموغرافيتها، بل وحتى قيمها، أيضا كان الأدب سريعا في تقدمه ببعض البلدان التي كان لأمرائها إرادة قوية للتغيير، فأعطوا للروائيين دفعا قويا من أجل خلق لغة روائية مميزة وراقية، لكنها في الوقت ذاته، لا تخرج أبدا عن السياق العام للمجتمع، وعن الخط المرسوم لمساره، لذلك، نجد أنه بالرغم من هذا التطور السريع، والكبير في الرواية الخليجية، من حيث بنية اللغة، والأفكار الليبرالية الجريئة التي طرحتها، والتي لامست بلطف، وفي بعض الأحيان بعض الخطوط الحمراء (تركي الحمد والخط الأحمر الديني، يوسف المحيميد والخط الأحمر السياسي) فإن هذا التطور، لم ينعكس على تناول موضوع المثلية الجنسية، بل بقي متأخرا جدا، ولا يتناسب مع تطور لغة الرواية بشكل عام، بل تجمدت هذه اللغة في طرحها للمثلية، وخاضت بها بشكل خشبي جامد، لا يتناسب مع بقية التطورات الأخرى التي شهدتها الرواية، ويمكننا أن نجمل سمات المثلية الجنسية كما جاءت في سياق الرواية الخليجية، بالنقاط التالية:
أولا: عدم الإعتراف بوجود هوية جنسية مثلية
فالمثلية الجنسية جاءت في معظمها، كميل جنسي بديل عن الميل الغيري، أو أحيانا نتيجة الفشل في إقامة علاقة جنسية غيرية، فتحاول الشخصية معاوضة هذا الفشل بعلاقة مثلية، كما حدث مع ميرال في رواية ساق البامبو للروائي الكويتي سعود السنعوسي الصادرة عن الدار العربية للعلوم عام 2012، والتي حازت على جائزة البوكر العربي عام 2013، فميرال فتاة فلبينية، مثلية الجنس، ولا تخفي هذه المثلية، بل تحضر صديقتها معها إلى منزل العائلة، وهي مقتنعة بهذه الهوية وتدافع عنها، لكنها تكتشف في نهاية الرواية أنها بحاجة لرجل!! وأن علاقاتها المثلية لم تكن سوى بحث عن الحب الحقيقي والذي لن تجده سوى مع الجنس الآخر.
أيضا في رواية الآخرون (2006) لصبا محرز (اسم مستعار)، تقول البطلة في أحد الأماكن “لقد اشتهيت فيها رجل لن يأتي، وفي المقابل اشتهيت دارين أن تكون ذلك الرجل المنتظر”. و في نهاية الرواية أيضا “تشفى” البطلة من مثليتها وتقع في غرام شاب يدعى عمر. هذه الفكرة تتكرر في عدد كبير من الروايات الخليجية الآخرى، كشخصية سماهر في رواية ملامح للكاتبة السعودية زينب حفني، والصادرة عن دار الساقي 2006، التي تصرخ في أحد المقاطع “لو كان الأمر بيدي، لألقيت الرجال جميهم في حفرة وأضرمت النار فيها”، فمثلية سماهر، هي رد فعل وحقد على الرجال، نتيجة تجربة الإغتصاب المريرة التي كانت ضحيتها في الطفولة، فهي ليست هوية أو ميل جنسي طبيعي، بل ميل مرضي نتيجة رض نفسي سببه لها الرجل؟ وبالتالي فهي بحاجة لعلاج نفسي من أجل الشفاء من هذا الاضطراب، وأيضا كما جاء وصف الكاتبة ليلى عقيل في روايتها الحمامة بعبائتها السوداء، والصادرة عن دار نينوى في دمشق 2012، فشخصية “ن” معقدة، مستلبة الإرادة، بل تذكر على لسانها وبشكل فج جدا “كل غرس له تربته الملائمة، الغراس خارج النوع، لذا أنبتوني في غير تربتي، فجاءت سنابلي بالحب” فالمثلية الجنسية هي مجرد خطأ، وإنبات في غير تربة حسب هذه الروائية.
لا نكاد نجد أي حديث غرامي مثلي، بل دائما تكون العلاقة ذات طابع جسدي حسي، ولم نجد رواية خليجية تتحدث عن حب مثلي، أو ارتباط إنساني مثلي، بل دائما تقتصر العلاقة على الجسد وتنتهي به
أحمد عسيلي
ثانيا: ارتباط المثلية الجنسية بالعنف
و هذا أوضح ما يكون في الجنسية الذكورية، فكل العلاقات تقريبا، تربتط بالإغتصاب، والإنتقام والشدة، ولا نكاد نجد إلا بحالات اسثنائية جدا، وجود علاقة مثلية ذكورية فيها شيئ من العاطفة، أوالرغبة الصادقة، ففي رواية ترمي بشرر للكاتب السعودي عبده خال الصادرة عن منشورات الجمل عام 2010، والتي فازت بجائزة بوكر لعام 2010، نجد شخصية طارق فاضل، والذي اتخذ من اغتصاب الرجال مهنة له، بعد أن كان يدخل بمنافسات مع شباب الحي في اغتصاب الأطفال الصغار، ليعمل لاحقا عند شخصية متنفذة كمغتصب مع التصوير بالفيديو، فالجنس بين الذكور، هو فقط لإبتزاز المنافسين لهذه الشخصية المرموقة، وكل العلاقات المثلية التي يقوم بها طارق، سواء كعمل يدر عليه المال، أو كنشاط شخصي، إنما يقوم به لإيقاع الأذية بالطرف الثاني، ولإثبات الذكورة والفحولة. شخصية ناصر في رواية شارع العطايف الصادرة عن دار الساقي عام 2009، للكاتب عبدالله بخيت أيضا، يتعرض بطلها لعدد كبير من الإغتصابات، تجعله قاتل متسلسل، وبشكل مرضي لعدد كبير من آهالي الحي، وكما ذكر أيضا يوسف المحيميد في روايته الحمام لا يطير في بريدة، الصادرة عن المركز العربي عام 2009، ملاحقة أبناء الحي للأطفال واستدراجهم إلى أقنان الدجاج كي يقوموا باغتصابهم هناك، فالعلاقة المثلية هي اغتصاب، وإثبات ذكورة، وتعويض نقص، مع شيئ من الإنتقام والجريمة، ولا شيئ سوى ذلك.
ثالثا: اقتران المثلية بالصراع الطبقي
وهذا أقل وضوحا في الرواية الخليجة عنه في عموم الرواية العربية، وبشكل معكوس بالنسبة للمكانة الطبقية، فمعظم العلاقات الجنسية في الرواية العربية، هي انتقام الطبقة الأضعف، من الطبقة الأكثر ثراء ومكانة (لنتذكر رواية بيضة النعامة لرؤوف مسعد الصادرة عن دار العين عام 2011، التي يقوم فيها الخادم باغتصاب طفل العائلة الغنية المدلل، وعمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني الصادرة عن مكتبة مدبولي عام 2002، التي يكون فيها ابن القرية الفقير هو التوب (الفاعل) في علاقة مع بوتوب (المفعول به)، يعمل كصحفي في جريدة ناطقة بالفرنسية، هو الثري ابن العائلة المدلل) أما في الرواية الخليجية فالأمر معكوس، فالطبقة الأكثر ثراء هي الأشد قوة، والأكثر بأسا، وبالتالي فهي الأكثر ذكورية وهي “التوب”، حسب المنظور الشعبي العام، وهي المبادرة بالفعل، والمتحكمة فيه، بل المتحكمة بالجسد ككل، وهذا أوضح ما يكون في رواية ترمي بشرر، فالشخصية المتنفذة تعري الأبطال المستأجرين كناية عن التحكم بالجسد، وهي التي تحدد من الفاعل ومن المفعول به، وهي التي تمتلك الفحول، وتستعملهم لإهانة الأقل مكانة، كذلك في رواية ساق البامبو، فالعربي الذي يلاحق الشاب ذي الأم الفلبينية، هو الذكر، وهو الذي يشتهي “الجانب الأنثوي” في البطل، هو الذي يلاحق، وهو الذي يسعى لأخذ دور المبادر في العلاقة الجنسية، فهو ابن البلد الأصيل “الأكتف” في مقابل ابن الخادمة الغريب عن البلاد “الباسيف”.
:رابعا: افتقاد الجانب العاطفي
لا نكاد نجد أي حديث غرامي مثلي، بل دائما تكون العلاقة ذات طابع جسدي حسي، ولم نجد رواية خليجية تتحدث عن حب مثلي، أو ارتباط إنساني مثلي، بل دائما تقتصر العلاقة على الجسد وتنتهي به، وحتى حين نجد بعضا من العاطفة المثلية، والتي تكاد تكون مقتصرة في الحديث عن المثلية الأنثوية تحديدا فالعاطفة للأنثى فقط، والجنس الحسي للذكور (وغائبة تماما عن المثلية الذكرية، ولكن حتى في الأنثوية فهي عاطفة كاذبة، مرضية، سريعة الإنتهاء، فيها من الجموح أكثر مما فيها من السكينة، فالعاطفة الوحيدة التي نجدها في رواية شارع العطايف هي بين ناصر وزوجته، و لا نكاد نجد أي حديث عن الحب في رواية ترمي بشرر، أما الكاتبة صبا محرز وليلى عقيل فرغم محاولتهما للحديث عن الجانب العاطفي في العلاقات المثلية الأنثوية، لكنها عاطفة أقرب للعصاب من الحب الأصيل، وهي عابرة سريعا، وليست سوى طريق لكتشاف الحب الصادق، وهو الحب الغيري دائما.
هذه هي السمات الأربع للشخصية المثلية، حسب الروايات الخليجية التي ناقشت هذا الموضوع، وأتيحت لي قرائتها، فرغم محاولة الرواية الخليجة الخوض في المواضيع الأكثر تحريما اجتماعيا، لكنها لم تصل لمرحلة النقاش الرزين أو المنطقي لهذا التحريم، بل جاء في مجمله مكرسا للمنظور الديني التقليدي، ولرؤية أنظمة الحكم للعلاقات المثلية، ولا نكاد نجد أي خروج عن هذا المنظور، فهي دائما سباحة مع التيار الديني والحاكم، ومتماشية مع رغبة الأمراء ومفهومهم لدور الأدب ووظيفته في المجتمع، وحسب ما يملي عليهم صراع القوى مع التيارات الدينية الأخرى داخل الدولة، لكن يبقى أملنا في الجيل الشاب في محاولة كسر هذه التابو روائيا، والخروج بلغة روائية متوازنة، ومنطقية في طرحها لموضوع المثلية الجنسية، فالرواية الخليجية بأمس الحاجة لهذه الأصوات.