بقلم أحمد عوض الله
ترجمة نوارة ب
العمل الفني: قضوضة
كنت مسترخيًا على أريكتي أتصفح “ستوري” إنستغرام، حيث تمرق صور زاهية أمام عيني – شواطئ وغروب الشمس ورجال عاريي الصدر وفيديوات للقطط – حتى لفتت صورة انتباهي، كانت لقطة شاشة لقصة على إنستغرام (خاصية القصة يمكن أن تكون صورًا أو مقاطع فيديو تختفي من ملفك الشخصي بعد مرور 24 ساعة) نشرها أحد المعارف ويدعي فيها أحد الأشخاص أن شخصًا آخر قام بإصابته عمدا بفيروس نقص المناعة البشرية المكتسب، تم تمويه العديد من التفاصيل ولم تكن لدي طريقة لمعرفة الصورة الكاملة، ولكن كان هناك شيء واحد واضح: كان شخص ما يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتقديم ادعاءات حول حالة شخص آخر فيما يخص فيروس نقص المناعة البشرية وظروف انتقاله.
بالرغم من تلك اللحظة الغريبة على وسائل التواصل الاجتماعي شعرت بشيء مألوف للغاية، تذكرت تجربتي على تطبيقات المواعدة مثل Grindr في مصر حيث كنت ألاحظ حسابات تم إنشاؤها تحت ذريعة “تحذير” المستخدمين الآخرين من إقامة علاقات جنسية مع من زعموا أنهم يحملون فيروس نقص المناعة البشرية، وذلك في محاولة لتشويه سمعة هؤلاء الأشخاص باستخدام صورهم الحقيقية، حتى أن هذه المنشورات دعت المجتمع إلى تجنبهم، وفي بعض الحالات تضمنت هذه الحسابات الشخصية أيضًا مزاعم بأن الفرد كان ينشر الفيروس عن قصد.
أعتقد أن تواجد مثل هذه التصريحات على وسائل التواصل الاجتماعي هي مثال على طغيان الخوف من المرض على قدرتنا على تقدير الأمور .علاوة على هذا يتم استخدام الفيروس كسلاح للنيل من الأعداء والتشهير بهم وبالتالي تعزز هذه التصريحات وصمة العار والتمييز ضد الأشخاص المتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشرية.
بدأت العمل في مجال الصحة الجنسية في مصر عام 2008، كان ذلك بالنسبة لعائلتي والعديد من دوائري الاجتماعية انعطافا عن مسار حياتي المهنية الأصلي كصيدلاني، ومع ذلك كان هذا النوع من العمل جوهر شغفي بالصحة؛ لقد كنت مهووسًا بمسائل الصحة والسلامة الجسدية منذ أن كنت صغيرًا وكان السعي للحصول على تعليم في الشؤون الصحية يدفعه رغبتي بضمان وصول جميع الناس إلى المعلومات والخدمات الصحية، لا سيما أولئك الذين هم على هامش المجتمع، ليس لدي أدنى شك في أن كويريتي شكّلت هذا الاهتمام؛ فقد كنت أفهم ماهيه أن تكون مستهدفًا بالتجاهل والتهميش وكيف أن خطابنا المجتمعي متحيزًا حول قضايا الجنس والجنسانية.
يبدو أن التجاهل ودفن الواقع هو الموقف العام تجاه فيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز في مصر، فيمكن للمصابين بفيروس نقص المناعة البشرية الحصول على العلاج من خلال البرامج الحكومية ولكن هناك نقص في الرعاية الشاملة، وكثيراً ما اشتكى المتعايشين مع الفيروس من سوء المعاملة على أيدي مقدمي الرعاية الصحية، علاوة على ذلك فإن السياق القانوني يعقد الأمور حيث يؤدي تجريم النشاط الجنسي غير المعياري بشكل عام والاشتغال بالجنس على وجه الخصوص إلى إعاقة جهود الوقاية، على سبيل المثال إذا عثرت الشرطة على واقيات ذكرية بحوزة شخص ما أثناء إجراء عشوائي للتوقيف والتفتيش فيمكن مقاضاة الشخص بموجب ما يعرف بقانون الفجور، ويتشابه الوضع في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا إلى حد ما حيث تجبر وصمة العار متعددة الأوجه الأشخاص المتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشرية على الاختباء والصمت وتمنعهم من من الإفصاح عن حالتهم الصحية، وهي خطوة حاسمة في الكفاح من أجل مساواتهم في الحقوق.
إن العمل مع قضايا فيروس نقص المناعة البشرية سيحمل معه أسئلة أخلاقية صعبة، وعلمت أيضًا أنه يمكن انتهاك حقوق الأشخاص المتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشرية باسم حماية الآخرين من الإصابة بالفيروس.
أحمد عوض الله
في أول تدريب تلقيته حول فيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز طُلب من المشاركين القيام بلعب الأدوار، طُلب منا تخيل سيناريو كان فيه شخصان غريبان على وشك الدخول في علاقة جنسية أحدهما متعايش مع فيروس نقص المناعة البشرية والآخر لا، تم تكليفنا بدور صديق الشخص غير الحامل للفيروس والذي كان على علم بتعايش الشخص الآخر مع الفيروس، ثم طرح المدرب السؤال علينا: “ماذا ستفعل كصديق؟” كانت الردود متنوعة حيث قال البعض إنهم سيبلغون الشخص السلبي لفيروس نقص المناعة البشرية على الفور بحالة الإصابة، بينما أظهر آخرون بعض التردد في الكشف عن معلومات شخصية لشخص ما. أكد المدرب على أهمية الحفاظ على سرية الحالة الصحية للآخرين وأشار إلى أن الانخراط في ممارسات جنسية أكثر أمانًا يجب أن يكون مسؤولية متبادلة بين كلا الشريكين، كانت الردود عاطفية بحدّة وانزعج الكثيرون من اقتراح البعض بعدم القيام بأي شيء حيال الوضع، وكان آخرون غير مرتاحين بشأن كيفية التعامل مع مثل هذا الموقف الحساس.
لقد تعلمت درسًا قيمًا من هذا التمرين: إن العمل مع قضايا فيروس نقص المناعة البشرية سيحمل معه أسئلة أخلاقية صعبة، وعلمت أيضًا أنه يمكن انتهاك حقوق الأشخاص المتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشرية باسم حماية الآخرين من الإصابة بالفيروس.
العمل الفني: قضوضة
عندما ظهر الفيروس في الثمانينيات انشغلت الحكومات بالسيطرة على الوباء، تم اتخاذ العديد من التدابير لمنع المزيد من انتقال العدوى بما في ذلك جهود التوعية وبرامج التثقيف بشأن استخدام الواقي الذكري، ومع ذلك فإن بعض السياسات التي هدفت إلى احتواء الوباء كانت إشكالية وزادت من وصمة العار والتمييز ضد الأشخاص المتعايشين مع الفيروس، من الأمثلة على هذه السياسات فرض حظر السفر على الأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية؛ ووفقًا لبرنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز لا تزال لدى 48 دولة قيودٌ تشمل الفحص والإفصاح الإلزامي عن حمل فيروس نقص المناعة البشرية كجزء من متطلبات تصاريح الدخول و/أو الإقامة و/أو العمل و / أو الدراسة، وفي العديد من البلدان حول العالم بما في ذلك منطقتنا يتعرض المهاجرون واللاجئون والسياح للترحيل إذا تبين أنهم متعايشون مع الفيروس، هذه القيود التي انتُقدت على أنها انتهاكات لحقوق الإنسان تستند إلى فكرة خطيرة ومضللة مفادها أن الأشخاص المتنقلين والمسافرين ينشرون الفيروس وكأن الفيروس لا يمكن انتقاله محليا.
مثال آخر لتلك السياسات الإشكالية هو تجريم انتقال فيروس نقص المناعة البشرية، في عام 1987 بدأت قوانين تجريم العدوى بفيروس نقص المناعة البشرية في الظهور في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وانتشرت هذه القوانين في جميع أنحاء العالم حيث توجد 75 دولة بها قوانين جنائية تذكر فيروس نقص المناعة البشرية على وجه التحديد، تنص بعض إصدارات القانون على أنه يتعين على الأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية الكشف عن حالتهم الصحية حتى لو كانوا يستخدمون الواقي الذكري أو لم يعودوا قادرين على العدوى، هذه القوانين فيها العديد من المشاكل فهي متخلفة عن الأدلة العلمية الحالية التي تنص على أن الأشخاص المتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشرية الذين يتلقون الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية لم يعودوا معديين، وعلاوة على ذلك تتجاهل القوانين مفهوم المسؤولية المتبادلة وتلقي بالعبء واللوم على الشخص المتعايشين مع الفيروس مما يعزز الصور النمطية السلبية عن الأشخاص المصابين بالفيروس مثل تهورهم أو اتهامهم بالانحلال الاخلاقي ورغبتهم في الانتقام.
معظم هذه القوانين لا تفرق بين النية والإهمال، فمن الناحية العملية من الصعب إثبات كيف ومِن مَن انتقل الفيروس على وجه اليقين مما يفتح الباب أمام اتهامات باطلة وأحكام خاطئة مثل الاتهامات التي شاهدتُها على تطبيقات المواعدة في مصر، فلا عجب أن يتم استخدام هذه القوانين بشكل غير متناسب لاستهداف الأقليات والفئات المهمشة، في الولايات المتحدة لا يتأثر السكان السود بمعدلات فيروس نقص المناعة البشرية المرتفعة فحسب بل يتأثرون أيضًا بمعدلات أعلى للإدانة والسجن في قضايا تجريم فيروس نقص المناعة البشرية. يمثل ذلك إشارة واضحة أن الخوف من المرض ليس دافع عقلاني فحسب. بالطبع يرغب جميعنا في تجنب المرض ولكن الفزع منه منه يفتح الباب لممارسة تحيزاتنا وعنصريتنا ضد الفئات المهمشة في المجتمع، حيث نحتاج لإلقاء اللوم على الآخرين. طالما تم الربط بين الأمراض والأوبئة والمهاجرين والأقليات العرقية في المجتمع حيث تجلل أثناء جائحة الكورونا التمييز ضد الأقليات من أصول آسيوية.
لقد استبعدت الحكومات تاريخيًا نشطاء فيروس نقص المناعة البشرية من المحادثة وعمليات صنع القرار مما أدى إلى إنشاء واستمرار هذه السياسات الإشكالية والواصمة، يحتجّ عدد كبير من الجماعات الحقوقية حول العالم على مثل هذه القوانين التمييزية ويضغطون من أجل إصلاحها.
العمل الفني: قضوضة
أصبحت على دراية بهذا النمط العنصري من الاتهام والتجريم بعد أن انتقلت إلى برلين في عام 2014 للعمل كمقدم مشورة ومثقف في مركز للصحة الجنسية، هناك سمعت العديد من الروايات عن التمييز في العلاقات الحميمة وعلى مستوى الدولة. يأتي العديد من الأشخاص لإجراء اختبار فيروس نقص المناعة البشرية بعد لقاء جنسي مع شخص ينتمي لمجموعة أقلية أو شخص ملون أو شخص عابر أو عاملاً في الجنس، وفي جلسات المشورة ا كانوا يكشفون عن أسباب اللجوء للاختبار والتي غالبًا ما كانت متجذرة في الصور النمطية حول هذه المجموعات؛ كانت هوية شركائهم هي التي أثارت قلقهم، وبالمثل كان احتمال إبلاغ هؤلاء “الشركاء القلقون” عن مثل هذه الحوادث إلى الشرطة أكثر، وكانت السلطات أكثر ميلًا لإدانة الشركاء الذين ينتمون إلى مجموعة مهمشة، أشهر حالة تجريم عدوى فيروس نقص المناعة البشرية في ألمانيا استهدفت فيها مغنية مشهورة في الفرقة الموسيقية No Angels “لا ملائكة”في مسرحية إعلامية حظت بتغطية كبيرة وكانت أيضًا امرأة ملونة.
كانت هذه الديناميكيات واضحة بشكل خاص في قضية عالجتها في برلين عندما جاء شريف (اسم مستعار) لطلب المشورة بعد أن أصيب بفيروس نقص المناعة البشرية من شريك جنسي، حدثت لقاءاتهما الجنسية قبل أن يبدأ شريك شريف المتعايش مع فيروس نقص المناعة البشرية بتناول الأدوية المضادة للفيروس . أفصح شريك شريف عن السر بعد أن شعر بالندم لعدم الإفصاح عنه سابقًا، عندما وصل شريف إلى المركز كان يشعر بالغضب والألم وأراد معاقبة شريكه السابق وبالنسبة له كان ذلك يعني إبلاغ السلطات عنه، كانت هذه معضلة أخلاقية فأنا شخصياً أعترض على وجود هذه القوانين، وانضممت إلى العديد من المبادرات التي تطالب بإلغائها، لكن في الوقت نفسه كان من واجبي احترام اختيار شريف. شاركت معه اعتراضي فيما يخص المبدأ لكن في نفس الوقت قدمت له المعلومات بخصوص الخدمات القانونية المعنية في حال قرر الاستمرار في التقاضي ضد شريكه السابق.
غالبًا ما أفكر في هذه الحالة عندما أرى منشورات تشوه سمعة شخص بسبب حالة فيروس نقص المناعة البشرية على وسائل التواصل الاجتماعي، أعتقد أن الإفصاح عن الحالة الصحية هو أفضل طريقة للمضي قدمًا قبل الدخول في علاقات جنسية مع الشركاء، وفي الوقت نفسه يمثل الخوف من وصمة العار والرفض عائق في طريق التواصل المفتوح والصادق، بالإضافة إلى ذلك لا تتبع العلاقات الحميمة الكويرية الأنماط الكلاسيكية للعلاقات الحميمة المعيارية مما يخلق مواقف يكون فيها التواصل غير ممكن، مثل اللقاءات العابرة مع الغرباء، أتذكر شعارًا موجودًا في حانة في برلين يقول: “تقاسَم اللوم”. لا ينبغي أن يقع عبء الحماية على الشخص المتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشرية، إنها مسؤولية مشتركة.
متابعة قضية انتقال فيروس نقص المناعة البشرية من منظور عابر للحدود بين مصر وألمانيا، وهما دولتان مختلفتان في السياقات السياسية والثقافية، تكشف عن أشكال مختلفة من التمييز ضد الأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية، يتسم السياق في مصر بالإهمال المنهجي والإنكار بينما في الأخير يتم تقنين وتأطير التمييز في النظام القانوني. من المسلم به أن الوصول إلى علاج وخدمات فيروس نقص المناعة البشرية راسخ في بلدان الشمال العالمي، لكن قوانين انتقال فيروس نقص المناعة البشرية تدحض الأسطورة القائلة بأن دول الشمال في العالم متقدمة على جميع الأصعدة حيث تحتاج تلك الدول أيضًا إلى مزيد من العمل لمواجهة الوصم المتعلق بفيروس نقص المناعة البشرية بشكل أفضل.
ركزت في هذا النص على انتقال فيروس نقص المناعة البشرية كبوابة لمناقشة كيفية تغلغل المعلومات الخاطئة والتحيز في مواقفنا، ومع ذلك نحن بحاجة إلى معالجة الأشكال المختلفة من الوصم والتمييز (السيروفوبيا ) والتي يتم تعريفها على أنها الخوف أو الكراهية أو التحيز ضد الأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية، تتجلى السيروفوبيا في أعمال العنف والابتعاد والإقصاء التي تحدث على أيدي المؤسسات أو أفراد الأسرة أو حتى الشركاء الحميميين.
نحن بحاجة إلى خلق خطاب مجتمعي ومساحات يمكن للناس فيها تبادل وجهات النظر حول هذه الأمور بطريقة خالية من الأحكام المسبقة، الحياة الجنسية الحرة والصحية تعني الوصول إلى المعلومات والخدمات للجميع.