بقلم موسى صالح
العمل الفني: عود نصر
هذا المقال من ملف ‘شعري يا شعري’ – هيكل العدد هنا
“الله لا يقطع حدا، الشفرة ب 250 ليرة” تتردد هذه العبارة في ذهني كلما تحدثت عن جسدي والشعر الذي يغطيه، تلك العبارة وغيرها الكثير مما كنت أسمعه من زملائي في المدرسة حول الشعر على وجهي الذي بدأ بالظهور بشكل واضح منذ كنت في الثانية عشر من عمري. كان شاربي واضحًا منذ كنت في الصف السابع، شعيرات سوداء ناعمة كثيفة تختلط مع بشتري السمراء ووجهي الممتلئ، تعطيني ملامح حادة جعلتني أبدو أكبر من سني الحقيقي لسنوات. كان ذلك ليكون مرحلة عابرة من تنمر زملائي على شكلي وجسدي لو لم أكن لوطيا، تتالت أساليب التنمر والكراهية عليّ وعلى جسدي، غير المفهوم في معظم الأحيان، بعدما تجرأت على إرسال صوري لرجال على تطبيق المواعدة “جرايندر”.
نمو الشعر والحزن
بعد سن الثانية عشر بدأ الشعر يغزو جسدي بشكل كثيف لدرجة أني كنت أستحي أن أرتدي الشورت في الصيف. أخذني تقبل جسدي سنوات، كنت أكرهه والشعر الذي عليه، أنظر إلى الرجال من حولي فأرى أجساد مشعرة بشكل خفيف وحتى من لديه شعر كثيف على جسده كان ظهره أملس بلا أي شعر، شعر ظهري الذي أخذني وقت وطاقة أكثر من باقي جسدي لأتقبله. في عمر العشرين أنتقلت من منزل والديّ لأعيش وحدي في غرفة صغيرة لا تدخلها الشمس، بعد دوام العمل ومحاضرات الجامعة كنت أعود لغرفتي وأتحرر من كل ما يغطي جسدي، دفعني كم التنمر الذي تلقيته من رجال غرباء لا أعرفهم إلى التقرب من جسدي الذي لا يرغب به أحد، أخلع ملابسي وأدخل للحمام أفرك شعر جسدي بالصابون جيدًا وأشكله دوائر أدور فيها بعقلي وأتساءل، لماذا شكلي هكذا؟ لماذا جسدي ضخم ومشعر لهذا الحد؟
العمل الفني: عود نصر
كلما زاد الكره لجسدي كنت أتقرب منه أكثر، لم يكن لدي خيار سوى الإشفاق على جسدي وشكلي. كنت قد تخليت عن كل شي، عن والديّ والجامعة وأصدقائي المتنمرين ولم يبقى لي سوى جسدي الغريب بنظر الناس وحتى أهلي، أتذكر أمي تصرخ من المطبخ كلما دخلت لأستحم: “بتشيل الشعر يلي بينزل منك قبل ما تطلع من الحمام”. في تلك المرحلة من حياتي أدركت أني وحدي في هذا العالم وليس لي سوى نفسي لأحبها، فأصبحت أتجرأ على لبس الشورت طوال أيام الصيف والنزول إلى البحر بلا كنزة تغطي شعر جسدي، ولكن ذلك الحب لنفسي لم يوقف رسائل التنمر والكره التي كنت أتلاقها، أتذكر في إحدى الليالي أرسلت صورة جسدي لأحدهم فقال لي “بشع، والك عين تحكيني” بكيت من تلك الرسالة لأنني لم أفهم لما يمكن لأحد لا أعرفه أن يقول لي كلام جارح كهذا، بينما يمكنه ببساطة أن يتجاهلني.
كما تدفعني بعض الرسائل التي تصلني للتفكير بمعايير شعر الجسد أيضًا، فحين يقول لي أحدهم “جسدك مشعر بكثافة” حيث أنه توقع جسد مشعر ولكن ليس لهذا الحد! فأتسأل بيني وبين نفسي ماذا تعني تلك الكلمات “لهذا الحد” وهل أرى نفسي مشعر أكثر من “الحد” المسموح به أو المتعارف عليه؟ في حين أني أرى جسدي في المرآة مشعر فقط بلا حد أو كم. وهنا ندخل في عالم محدد أكثر أحب أنه أسميه “التفضيلات الباطنة” والتي تتخذ شكل صورة مرسومة لتفضيلات معينة ولا يمكن كسرها بأقل من معايير تلك الصورة.
الشعر في مجتمع الميم
بدأت بعدها أنتبه أكثر لدينميكيات المواعدة بين الذكور/الرجال أونلاين، وبدأت أفهم كم أن الأجساد الرجولية المشعرة على وجه التحديد مكروهة، مبغوضة لدرجة أنهم لا يريدونك أن تتواصل معهم حتى وفي أفضل الأحيان يطلبون منك أن تحلق شعرجسدك كي يقبلون ممارسة الجنس معك. دفعني ذلك للتفكير أكثر بجسدي وأجساد الآخرين مثلي، كأنه لا يكفينا صراع الذات والمجتمع بين تقبل هويتنا ورفضنا لذواتنا لنواجه بكره وتنمر ممن نتوقع أنهم يعيشون ذات الظروف. ولكن إذا نظرنا للمشهد من منظار أبعد نرى أن ذلك ليس صحيحًا، فنحن “كمجتمع الميم” لسنا فئة واحدة ولا جماعة واحدة، نحن أشخاص من خلفيات وبيئات اجتماعية واقتصادية مختلفة يجمعنا بشكل أساسي رغبتنا بمن هم من ذات جنسنا، نلتقي من خلف شاشة عبر تطبيقات متعددة أهمها تطبيق “جرايندر”، وهو الأكثر استخدامًا في لبنان، حيث يمكن للجميع كتابة ما يريدون في بروفايلاتهم أو حتى إرسال رسائل كراهية للآخرين بلا أي ضوابط. في مقال سابق نُشر على موقع “جيم” بعنوان “تطبيق جرايندر: فضاء للتهميش والعنصريّة” أقول أن ذلك التطبيق “يلعب دورًا مهمًا في ترسيخ الفروقات والأنماط الجندرية والجنسية من حيث فرضه لتصنيفات معينة يختار منها المشترك ما يناسبه في عملية قولبة لأجساد المستخدمين ضمن فئات وتقسيمات مخزية،..حيث تنتشر عبارات مثل “لا آسيويين”، “لا ممتلئين”، “لا عابرين/ترانس جندر”، “لا سود”، “لا أنثوي”، “لا مُشعر” وغيرها”. وفي ذكري للضوابط لا أدعو لتحديد حرية التعبير أو التواصل ولكني أثير تساؤلات حول تعاملنا مع جنسانياتنا وميولنا غير المعيارية وتواصلنا مع بعضنا البعض عبر تطبيقات “بيضاء” لا تأخذ أي اعتبار للمستخدمين والمستخدمات في منطقتنا والدينامكيات التي تحكمنا.
العمل الفني: عود نصر
عقدة الجسد الأبيض
وموضوع الكراهية على تطبيقات المواعدة لا يتوقف عند جسدي، فالمشكلة هنا ليست شخصية، بل هي فكرة تشرّبها الكثيرون من المثليين في منطقتنا، باعتقادي من مقاطع البورن التي تعرض لنا الرجال البيض بأجسادهم الملساء الناعمة والمنتفخة المسيطرة بشكل أساسي، وسيطرة أفكار المستعمر الأبيض علينا، بعدما قمع ثقافتنا الغنية بالتجارب الجنسية غير معيارية، حتى أصبحنا ننظر للغرب بأنه القدوة في التحرر والانفتاح والتقبل بينما نرفض أجسادنا غير البيضاء والمشعرة.
وبينما قد يناقش البعض أن من حق الجميع اختيار تفضيلاتهم الجسدية إلّا أن موضوع التفضيلات لا يبرر التنمر والإقصاء، وأتخذ من لبنان على وجه الخصوص مثالًا كوني تعاملت مع مختلف أنواع الكراهية والاستغراب للشعر الذي يغطي جسدي “بشكل مبالغ فيه” أكثر من أي بلد في منطقتنا زرته. يفتح ذلك لنا المجال في التفكير أعمق من رفض الأجساد المشعرة كتفضيل، إذ يمكن لنا وبالعودة إلى سيطرة الثقافة الغربية علينا وعلى “مجتمع” الميم في لبنان بطبيعة الحال، أن نرى كم التماهي مع تلك الثقافة أكان من حيث اللغة أو التعبير عن هوياتنا الكويرية. إذ لا يمكن مثلا أن تتحدث مع أحد باللغة العربية على مختلف تطبيقات المواعدة، حيث يعتبر ذلك نقص فيك وتعبير عن ثقافتك “المنحطّة”، كما لاحظت التعامل مع أي عمل فني بمقومات وعناصر عربية أكان من ناحية الملابس كبدلة الرقص أو اللغة كالأغاني العربية على أنه إعجاز وجرأة ممن يقدمه حيث يتعامل الجهور المتلقي مع تلك الأعمال على أنه من ثقافة أجنبية تبهره وتفاجأه ثقافتنا العربية ومقوماتها الفنية.
العمل الفني: عود نصر
عدم تقبّل شعر الجسد (بين الذكور غير المعياريين) ليس تفضيل جنسي بحت، بل في كثير من الأحيان يأخذ طابع التنمّر والكراهية أو على الأقل الرفض بسبب موروثات مرئية وممارسات ثقافية وجنسية تعزز فكرة الجسد الأبيض الأملس كمعيار لما هو جذاب وجميل. والموضوع ليس جسدي أو الشعر الذي يغطيه فقط، بل موضوع عام يمكن أن يتخطى رفض الجسد المشعر ليصل حتى رفض أعراق بشرية كاملة وهو الأمر الذي سهلته تطبيقات المواعدة عبر الإنترنت التي تعتمد على سرعة التواصل والفعل الجنسي.
ما نتحدث عنه اليوم أكبر من أن يحصر في مقال واحد، ولكن من الضروري مناقشته لفهم أكبر لديناميكيات العلاقات الجنسية بين الذكور في منطقتنا وارتباطها بالثقافة والموروثات وتأثير المحتوى الغربي الأبيض على تفضيلاتنا واختيارتنا، خصوصًا وأن نقاش ما يعتبر تمييزا عنصريا مازال موضوع نقاش هامشه غير واضح تمامًا وسط مدينة الرأسمالية وتقديس الفردية.