بقلم اريانا غازي الحسامي
العمل الفني: ملوخية الفيل
ترجمة: نوارا علي
هذا المقال من ملف ‘إنشالله بكرا’ – هيكل العدد هنا
المستقبل بحر لم تُسبر أغواره ننظر إليه بأمل إيمانًا بأننا قد نصلح أخطاء ماضينا وحاضرنا، منذ ولادة الإنترنت العام في الثمانينيات سيطرت التقنيات الرقمية على أمانينا للمستقبل، أما اليوم فتحكُم نفس التقنيات أجسادنا وتشكلها بطرق يمكنها أن تحررنا وتقيّدنا، ومع استمرار عوالمنا الاجتماعية والتكنولوجية في الاندماج ببعضهما أصبحنا نعتمد بشكل متزايد على التكنولوجيا لأداء العمل والحفاظ على علاقات القرابة والالتقاء فيما تسميه المنظِرة المثلية لورن بيرلانت “intimate publics/الحيز الحميم” وهو أي مجتمع يتميز بتشارك رؤية عالمية ومعرفة عاطفية مستمدة من تجربة تاريخية مشتركة على نطاق واسع (بيرلانت ٢٠٠٨).
أصبح الفضاء الرقمي ملعب السياسة الكويرية حيث يمكن فيه للمجتمعات التي لم تستطع الازدهار سابقًا الاجتماع من خلال تمثيل الذات وحيث يتم فيه تشكيل نماذج من الحيز الحميم الكويري، علينا أن نفهم بشكل أفضل الثغرات بين عوالمنا الاجتماعية والتكنولوجية لإيجاد طرق لاستخدامها لصالحنا وتصميم مستقبلنا الكويري بوعي، كيف يمكننا أن نعيد صياغة التكنولوجيا لبناء أكثر من حيز حميم كويري في فضاء رقمي يوفر مستقبلًا عادلًا للجميع؟
تشير كلمة “كوير” هنا إلى صناعة عالم لا يُعتبر فيه كونك كويرًا مجرد ممارسات جنسية غير معيارية ورغبات وانتماءات وتجسيدات جندرية ولكن أيضًا طريقة بديلة لرؤية العالم والتواجد فيه. مع أخذ هذه الأشياء بعين الاعتبار، أُدرجُ مفهوم بيرلانت للحيز الحميم كمجتمع مشترك المشاعر ومفهوم غياتري غوبيناث للمُتخيَّل الإقليمي الكويري في سياق قضايا الكوير لتحديد كيفية ترسخ روابط الدياسبورا وتأطير المنطقة الجديدتان في الفضاء الرقمي من دون تحويره حول تركيز أوروبي أمريكي. من خلال ذلك أريد إفساح المجال لشمل حيزات حميمة كويرية جديدة وإظهار مدى إمكانية الفضاءات الرقمية من تصميم حيزات حميمة كويرية.
لم تكن المساحات الرقمية آمنة دائمًا للكويريين ولا يمكن للإنترنت أن يكون نقيًا من أصوله الرأسمالية منصات وسائل التواصل الاجتماعي رغم تحررها تظل أماكن للتسويق والاستغلال الرأسمالي، علاوة على ذلك يتعين على المرء أن يتعامل مع الخوارزميات العنصرية والجنسية والرقابة الأبوية
في سياق جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا، من المهم أن يوفر العامل الرقمي إمكانية إنشاء روابط ومتخيلات الدياسبورا بطرق جديدة تدعم ازدهار حياة الكوير في مناطق جغرافية جنسية بديلة خارج الإطار الأوروبي الأمريكي، مفهوم غوبيناث للـ”مُتخيَّل الإقليمي الكويري/“queer regional imaginary” يقترح “إمكانية تتبع خطوط العلاقات والقواسم المشتركة… بين المساحات الإقليمية التي تبدو منفصلة… لإنتاج خريطة جديدة للفضاء والجنس” (غوبيناث ٢٠١٨) والتي يمكن أن تساعدنا في تخيل ما يمكن أن يبدو عليه الحيز الحميم الكويري في الفضاء الرقمي. يقدم المُتخيَّل الإقليمي الكويري طريقة لفهم منطقة جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا على أنها “تقف في تناقض مع الخيال الوطني السائد الذي يطمس الأجساد والرغبات والانتماءات غير المطابقة له” (المرجع نفسه). بناءً على ذلك يمكننا أن نتخيل الفضاء الرقمي كموقع يتجاوز الحدود الوطنية (والمستَعمرة تاريخيًا) ويسمح بالسفر والتواصل والارتباط عبر الأراضي وبالتالي مُنشئًا حيزات حميمة جديدة تتشكل حول نقطة التقاء الجنسانيات والرغبات غير المعيارية. إذًا يمنح المتخيل الكويري الإقليمي الرقمي الحرية لصياغة روابط اجتماعية جديدة غير متأثرة بعوائق الجغرافيا المادية وتعطي الكويريين المجال لإعادة إنشاء مفهومهم الخاص للمكان والزمان بعيدًا عن التركيبات المعيارية السائدة للجنس والدولة القومية والمنطقة. والأهم من ذلك أن الحيزات الحميمة لمتخيل الإقليم الكوير تردع التعبيرات الكويرية الأوروبية الأمريكية المهيمنة وتحدد جنسانيتها وفق شروطها الخاصة ضمن ومن خلال سياقاتها التاريخية عبر وخارج جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا. مستقبلاتنا الكويرية الرقمية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار تصورًا إقليميًا كويريًا “لإعادة إحياء مفهوم المنطقة أو الإقليم من خلال فهمها كفئة علائقية متغيرة ومتحركة بدلاً من كونها ثابتة أو جامدة” (المرجع نفسه) للتأكد من أن مستقبلنا على الإنترنت آمن وشامل وعادل للجميع.
هناك العديد من الأمثلة حول كيفية توفير العالم الرقمي مساحة للتجريب واستكشاف الهوية الكوير وصناعة العالم، Habibi Collective من قبل Róisín Tapponii عبارة عن منصة منظمة لصناعة الأفلام تعرض أعمال النساء وغير مطابقي/ات النوع الجندري من منطقة جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا وهي مثال على استخدام الحيزات الحميمة الفن لرسم خرائط جنسانية جديدة تنتقد وتُخضع وتتجاوز الدولة القومية وإدارة الأجساد والجنسانيات في الفضاء الرقمي. إضافة إلى ذلك المدونات (Queer Coptic Stories) والمجلات عبر الإنترنت (My.Kali و Cold Cuts) والتطبيقات مثل انستغرام (@TheQueerMuslimProject @voices4_ @themarginalizedmajority) وتيكتوك (@thetransmuslim, @mrspotatoqueen) والبودكستات مثل (@thequeerarabs) تمنح منصة للاستكشاف الحميم لجنسانيات غير مقيدة. يظهر هذا بشكل خاص في الأماكن التي تعاقب فيها وصمات الدولة (والأسرة) الهويات الثنائية بين الجنسين وتجعل الجنسانية غير المعيارية من المحرمات. كما لا تُظهر هذه الأمثلة الفضاء الرقمي مكانًا للتجريب والتعبير فحسب بل مساحة للتعليم وللتعرف على حقائق العيش بطريقة أخرى خارج التقاليد المعيارية أيضا، ما يمنح المرء الثقة ليعيش حقيقته، سمح التمثيل عبر الإنترنت للمجتمعات المهمشة باستكشاف أنفسهم والعثور على بعضهم البعض وتشكيل روابط تتعدى الإنترنت وتحمل الحيزات الحميمة إلى عوالمنا غير المتصلة بالإنترنت.
العمل الفني: ملوخية الفيل
ومع ذلك لم تكن المساحات الرقمية آمنة دائمًا للكويريين ولا يمكن للإنترنت أن يكون نقيًا من أصوله الرأسمالية منصات وسائل التواصل الاجتماعي رغم تحررها تظل أماكن للتسويق والاستغلال الرأسمالي، علاوة على ذلك يتعين على المرء أن يتعامل مع الخوارزميات العنصرية والجنسية والرقابة الأبوية (نوبل ٢٠١٨، راسل ٢٠٢٠) ناهيك عن عواقب التعبير عن الجنسانية علنًا على الإنترنت، العديد من الأشخاص الكويريين/ات في الفضاء الرقمي وخاصة الأشخاص الكويريين من معتنقي الأديان لا يصرحون بكويريتهم على الإنترنت أو خارجه حتى في أماكن مثل المملكة المتحدة حيث غالبًا ما يكون ذلك خطيرًا ويمكن أن ينتهي بالنبذ أو العنف.
على الرغم من رد الفعل المحتمل يجب أن نستمر في استخدام الفضاء الرقمي كأداة للنجاة في النظام الأبوي والرأسمالية وللمطالبة بالعدالة الاجتماعية والسماح للحيزات الحميمة الكويرية بالتشكل، يوضح أريك تشودري مدير WebRoots Democracy أنه “من خلال تمكين الناس من الحصول على منصة للتحدث وتحت اسم مستعار إذا لزم الأمر، خَلق [العالم الرقمي] مساحة للأفراد لتبادل الخبرات وتكوين صداقات واكتساب مثل عليا.” لقد أعطت المساحات الرقمية تصويرًا للتجارب الكويرية الحية التي قد تكون مخفية عن حيزنا اليومي، الحيزات الحميمة الكويرية في الفضاء الرقمي تؤكد أن “نحن هنا، ونحن موجودون/ات”.
بالنظر إلى ما وراء الرقمي ككيان منعزل يمكننا أن نرى أن الحيزات الحميمة الكويرية في الفضاء الرقمي تؤثر على كيفية معالجة الجنس في الحياة اليومية غير الرقمية، وبالمثل يمكن أن تساعدنا تجربة الكوير غير الرقمية في الأماكن العامة في فهم كيفية تصميم مستقبل للكويريين/ات على الإنترنت بشكل أفضل، ما الذي تقدمه الأماكن العامة حقًا؟ ولمَن؟ ماذا ينقصها؟ إن تشكيل الحيزات الحميمة الكويرية في الفضاء الرقمي يعيد تعريف ما يعنيه “العامّ” ويضع حدوده الخاصة بالشمل خارج الرأسمالية أو النظام الأبوي، علاوة على ذلك فإنه يتيح الاكتشاف والتواصل مع مجتمع من الخبرات المشتركة والذي قد لا يكتشفه المرء بطريقة أخرى من أجل دعم ومساعدة بعضنا البعض مما يمهد الطريق لزيادة إظهار الكوير عبر جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا وخارجها.
يجب أن نستمر في استخدام العالم الرقمي كمكان لسرد قصصنا وتجاربنا التي نعيشها وبناء هوياتنا من خلال الرغبة في أن تكون أصواتنا معترفًا بها في النقاش العام حول الهوية الجنسية، عبر سرد قصصنا في الفضاء الرقمي نخلق حيزاتنا الحميمة من خلال متخيلة إقليمية كويرية تدفع بحدود الانتماء والشمل لإنشاء مساحة أكثر شمولًا وإنصافًا دون الحاجة إلى التنكر أو العيش على الهامش، تستحق قصصنا أن تشغل مساحة حيزٍ حميم خاص بنا وأن نصيغ هذا الحيز على الإنترنت وخارجه، هذه المساحات الجديدة القائمة على الخبرة الجماعية المشتركة التي تعلمناها من بعضها البعض في عالمنا على الإنترنت وعوالمنا اليومية تقدم بقاءًا جماعيًا مشهودًا كأساس لعلاقاتنا الاجتماعية المستقبلية التي “نتطلع لها غدًا”.