بقلم ريم محمود
تحرير موسى الشديدي و خالد عبد الهادي
تصوير ديانا عمر
تحرير الصور: عمر بريكة
تلبيس جاد تغوج
العارضين: يامن و ج.ع.
هذا المقال من ملف عدد ‘الصوت’ – هيكل العدد هنا
ملاحظة: في جلسة التصوير هذه لم يمارس أي شكل من أشكال العنف وتم أخذ موافقة جميع الأطراف المشاركة حيال ظهورهم/ن في هذا العمل في سياق مناهض للعنف لا مشجعا له. التصوير يتمحور حول محتوى هذه المقالة.
أثارت أغنية “سالمونيلا” بعد انتشارها ضجة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، البعض استنكر وندد بالفكرة التي تطرحها الأغنية، ألا وهي الهجوم الصريح والسافر على امرأة بسبب رفضها العاطفي، والبعض الآخر وجد أن الأغنية جاءت بفكرة توعوية لتوضيح حقيقة وصورة الشاب الذي يسيء للمرأة إثر رفضها العاطفي له.
أتابع التعليقات وردود الأفعال على الأغنية باهتمام، وما أثار دهشتي فعلاً هو عدم قدرة البعض على تصنيف ما تتعرض له النساء إثر الرفض العاطفي على أنه عنف وبحاجة لعلاج جدي وتدخل سريع.
أذهب إلى غوغل، أكتب عبارة: “العنف ضد النساء بسبب الرفض العاطفي” وأضغط على زر البحث، لا يوجد أي مادة ترصد هذه المشكلة التي قد لا تخلو حياة عدد كبير من الفتيات في مجتمعنا منها. هل فعلاً لم ينتبه أحد لهذه المشكلة بالرغم من شيوعها من قبل؟
دفعني ذلك إلى العمل على هذه المادة التي أسعى من خلالها لتسليط الضوء على العنف الذي تتعرض له النساء بسبب الرفض العاطفي، وما يترتب على ذلك من ملاحقة أو إساءة لفظية ومحاولة تشويه سمعتهن أو حتى الهجوم عليهن بغرض التهديد بإلحاق أذية جسدية..وصولاً إلى القتل.
ثقافة الاختيار: امتياز للرجال فقط
الرجل في مجتمعنا وثقافتنا، يختار امرأة تعجبه وهي إما تقبل أو لا تقبل بالارتباط به. والمجتمع إلى حد ما في ثقافته اليوم يمنح المرأة حق الرفض أو القبول ولكن بشروط؛ أي أن حرية المرأة في اختيار شريك حياتها تخضع لمعايير تفرضها عائلتها عليها، وأحد هذه المعايير هو وجود حجة مقنعة (للمجتمع والعائلة) لرفض شاب متقدم للفتاة بمواصفات جيدة. هذا الشرط انتقل تلقائياً وانغرس بلا وعي في الرجال وجعل تقبلهم لرفض امرأة لهم أمر غاية في الصعوبة والتعقيد.
فالرجل إذا كان يعتقد نفسه جيداً (جميعنا نرى أنفسنا جيدين) ويكنّ للفتاة مشاعر صادقة بنظره، بدأ يرى ويشعر أنها مدينة له بالقبول، وأن الموافقة على الارتباط به أمر واجب عليها طالما أنه اختارها وأحبها وقرر أن يكمل حياته معها.
ما نراه كثيراً في الدراما والسينما هو قصة الرجل الذي يلاحق فتاة بلا كلل لأنه يعتقد أنها لن تجد رجلاً أفضل منه أو يحبها أكثر منه، والمشكلة أن عدم الاستسلام والنزول عند رغبة المرأة ورفضها للعلاقة أمر يصنف في ثقافتنا على أنه أمر غاية في الرومنسية، فأصبحت ملاحقة الشبان للفتيات أمر مبرر بالحب والتعلق، وفي مجتمعنا لا يقف الشبان عند الملاحقة والإزعاح، بل إن الأمر يتجاوز ذلك ليصل إلى تشويه السمعة أو الابتزاز، فكم من فتاة عاشت أيام من الرعب المتواصل بسبب تهديدات وملاحقة شاب لها إثر رفضه أو رغبتها بإنهاء العلاقة معه.
“عندما أخبرته بأني لم أعد أرغب بالاستمرار بالعلاقة العاطفية، راح يشتمني ويهددني بنشر صوري ورقمي مع دعوات وعبارات جنسية على صفحات ومجموعات الفيسبوك”
معاناة بصمت
تقول سلام 17 عاماً: بعد أن رغب بالانفصال عني بسبب مشكلة حدثت بيننا، قام بحظري على وسائل التواصل الاجتماعي، وأنا نزلت عندها عند رغبته وكففت عن التحدث إليه، وفجأة وبعد فترة ألغى الحظر وشرع يرسل إلي رسائل وتهديدات بالفضيحة والأذية إذا لم أقبل بالعودة إليه.
قصة نور مختلفة بعض الشيء، فما حدث معها هو ملاحقة وإزعاجات مستمرة من شاب كان يرسل إليها رسائل لأنه معجب بها. ومن ثمّ صار يلاحقها في الأماكن التي تذهب إليها، “حول حياتي لكابوس حقيقي، كان يرسل لي رسائل تحتوي على شتائم وإهانات، كما أنه حاول التواصل مع شخص ذو نفوذ للضغط علي وإجباري على الموافقة بإقامة علاقة عاطفية معه” هذا ما قالته نور.
“عندما أخبرته بأني لم أعد أرغب بالاستمرار بالعلاقة العاطفية، راح يشتمني ويهددني بنشر صوري ورقمي مع دعوات وعبارات جنسية على صفحات ومجموعات الفيسبوك” هذا ما أخبرتني به لمى عن التجربة التي مرت بها عندما كانت في عامها التاسع عشر.
المشكلة في شعور الرجال بأن النساء مدينات لهم بالقبول بمجرد اختيارهم لهن وتمتعهم بمواصفات جيدة بمعايير المجتمع، أن نتائج هذا الشعور تفضي إلى الملاحقة والابتزاز والتهديدات وهذا كابوس عاشته العديد من النساء في مجتمعنا، ولا تتوقف عند هذا الحد. فكم من امرأة قتلها رجل بعد أن رفضته أو قررت إنهاء علاقة عاطفية معه.
وهذا ما حدث مع الشابة حنان أبو فخر 22 عاماً وهي طالبة بكلية الإرشاد النفسي، حيث قام شاب بتفجير قنبلة بقربها لرفضها الارتباط به، وحدث هذا في مدينة السويداء في سوريا في العام الجاري.
وقد أرفق بعض رواد موقع فيسبوك الجريمة مع عبارة “عشان تبقي تقولي لا” وهذا مؤشر خطير يعكس تطبيع هذا النوع من الجرائم في المجتمع الذي بدأ يعتاد على رؤية امرأة مقتولة بسبب رفض عاطفي دون أن يتحرك ساكناً.
ففي شهر كانون الأول من العام الفائت في مدينة السويداء، قتل شاب آخر الطفلة بيسان أبو حامد 14 عام، بتفجير قنبلة في منزلها بسبب رفضها الارتباط به.
“عشان تبقي تقولي لا!”
عندما تصبح أغنية منطوية على قائمة بالتهديدات لامرأة قالت لا لرجل، جزء عادي من أيامنا، نصحو لنتراقص على أنغامها، ينغرس في اللاوعي الجمعي لدينا مدى طبيعية تهديد الرجل لامرأة رفضته، فهذا الأمر تحول لمشهد أقل من عادي في ثقافتنا، فالفكرة تكتب، تشارك عدة مرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وسرعان ما تصبح طبيعية في نظرنا. ثم يأتي أحدهم ليغنيها، نردد الكلمات معه، نتراقص على أنغام الأغنية التي هي في الأصل قائمة من التهديدات والعتاب والغضب على امرأة رفضت، بنبرة وصوت سيجعلك تشعر تلقائياً أن القبول كان حق للمعجب الولهان، والرفض ليس حق للفتاة التي تدين للرجل المعجب بالقبول.
تم نشر أغنية للكوميديان المصري تميم يونس أوائل هذا العام أغنية “سالمونيلا” و التي تتمحور حول غضب الرجل عندما يتم رفضه من قبل البنت بكلمة “لا”. فيذكر في أحد مقاطعها “وإن قلتي لي لأ؛ يلعن أبو شكلك. بكرة يقابلك حد يقولك لأ تلؤ طعامتك تيجي في كرامتك، ويجيلك سالمونيلا وتصحي فشله وتجري ورايا متلحقنيش… عشان تبقي تقولي لأ”. وقد أثار دهشتي فعلاً العدد الكبير من الناس الذين رأوا موقفنا من الأغنية على أنه مجرد مبالغة! “مش عارفة ليش اعتبروها اهانة للبنت!! واضح انه بيهزأ الشب يلي مجرد ما البنت بتقوله لا ..ما بخلي ستر مغطى عليها. سياسة القطيع وإلغاء التفكير مشكلة!” جاء في أحد التعليقات.
وهذا ما يعكس بالطبع الفجوة الكبيرة في فهم مجتمعاتنا لآثار الإعلام الذي نستهلكه بشكل يجعل تأثيره أكبر حتى من التربية المباشرة في الأسرة والمدرسة. “مكنتش عايز أرد بس مضطر أوضح، معظم الناس حبت الأغنية، وتعليقات قليلة انتقدتها واعتبرتها ضد المرأة. الأغنية قصدت بها السخرية من الشاب الذي يمثل الرومانسية ثم يجن عندما ترفضه الفتاة ويقوم بتوجيه الإهانة لها واتهامها بأمورغير صحيحة ويعاملها بذكورية فيها نقص” وكان ذلك رداً من يونس في مقطع فيديو قام بنشره عبر حسابه على فيسبوك. و بعد انتشار الفيديو ورد يونس نشرت دعاء فتفت، و هي شخص عمل مع تميم يونس بأحد الإعلانات، بنشر شهادتها عبر حسابها الخاص عالفيسبوك لتؤكد بأن تميم نفسه متحرش “إنت متحرش. إنت ما بتعرفش تتعامل مع رفض الستات بشكل ناضج. إنت ذكوري… عايز تعمل تريند وتطلع على برنامج منى الشاذلي، إنت برضه حر. بس مش على قفا قضايا نسوية في ناس وجمعيات بيطلع عينها عشان تزود الوعي عليها وتحسنها.” قد تأتي خطورة أثر الإعلام بكونه ينغرس باللا وعي لدينا ويساهم بشكل فاعل في تشكيل قراراتنا حيال المواقف والحوادث التي تحيط بنا.
“يتمنعن وهن راغبات”
تجذرت العقلية التي تتمخض عنها جملة مثل “يتمنعن وهن راغبات” في مجتمعنا. فالمجتمع لا يعترف أصلاً برفض المرأة أو قولها “لا”، هذا الرفض ما هو إلا دلال وغنج، أو تعبير عن رغبة المرأة بأن يكافح الرجل أكثر للوصول إليها؛ فكلمة “لا” من المرأة في قاموس مجتمعنا الذكوري لا تترجم ل “لا”، بل إلى “حاول أكثر” أو “جرب طريقة أخرى”.
المرأة الطيعة الغضة المطيعة منذ طفولتها، لا تعرف الرفض ولا يمكن أن يُقبل منها، فالتمرد صفة غير محمودة في النساء، وفي العلاقات العاطفية، لا يتوقع الرجل من المرأة أن ترفضه بعد أن اختارها، ولا يشعر بأحقيتها أصلاً بامتلاك خيار الرفض.
سنرى المزيد من الضحايا في صفوف النساء ممن يمارسن حقهن الطبيعي برفض علاقة عاطفية أو القرار بإنهائها، أو رفض ممارسة جنسية، طالما المجتمع ما زال لا يولي أهمية لأصالة كيان المرأة وحقها الطبيعي بامتلاك مصيرها، وبقدرتها على الاختيار واتخاذ القرارات المتعلقة بمصيرها، وسنسمع عن المزيد من جرائم قتل النساء طالما أن المجتمع يربي الذكور على رؤية الإناث على أنهن خلقن لمتعة الرجال وإشباع غرائزهم وبطونهم، وبأن حق المرأة بالاختيار لا يساوي حق الرجل بالاختيار.