بقلم: شرو
.العمل الفني: ق
هذا المقال من عدد سنة ورا سنة

على مدار السنين كان على صلاح بذل الكثير من الجهد لتحليل وتفكيك وإعادة بناء مفهوم “الفطرة السليمة” التي كانت أساس ذريعة كل من يحرم اللواط كفعل يدنسّها وينافيها، فبغض النظر عن كم الدروس التي يرشق بها الأطفال حول اللواط (وللأمانة لم تكن بالقدر المذكور مقارنة بالوقت الحالي) والتي كانت تقتصر على استخدام قصة قوم لوط وقصة حارس حديقة الحيوان الذي نتج عن علاقته بقرد الحديقة فيروس الإيدز، الداعي للسخرية أن رجال الدعوة السلفيين القادمين من دول الخليج كانوا من أتى بهذه السردية خلال رحلاتهم التنويرية الممولة بشراهة حول مساجد عمان.

كنبتة سامة دخيلة تتجذّر في العمق بينما تظهر فوق الأرض متواضعة هزيلة قابضة على الجمر لا تكاد تحتمل تدني الدنيا وصخب مهزلة الوجود، تعمل الجمعيات الخيرية بهذه الطبيعة والأسلوب المختلين الذي لطالما اقتات على التمويل الضخم لإحراز أرقام عالية في التقارير والدراسات السنوية التي تعمل كمشرّع لوجودهم وجزء من منظومة البروباغاندا لداعميها من شركات، ودول وصناديق استثمار ورجال أعمال من ضمنهم الشيوخ والأمراء. فتبدأ جذور هذه النبتة بضخ التقارير عن أرقام “المنتفعين” بفعاليات وأنشطة ورحلات جماعات الدعوة والتنوير غير المستدامة. وبشكل غير متكافئ ولا عادل استطاع البعض مع مرور الوقت ممارسة نوع من استرجاع بعض ما أخذ من طفولتهم والانتفاع بمخلفات السلف من المعونات التكنولوجية والمادية لابتداع نشاطات ترفيهية وتعليمية غير فيديوهات المخدرات والإيدز وبطولات المجاهدين الهوليودية والتي لم يكن يحضرها الأطفال إلا لنيل بعض الحلوى والنقود، على غير كبار السن الذين أتوا طوعا وأحبّوا هذه العروض والمحاضرات التي كانت تبرر وتخفي هزائم جيلهم المتكررة.

المضحك المبكي أن فقرة مشاهدة الأفلام والمسلسلات التعلميية والترفيهية لم تكن منتشرة قبل حضوة السلفية بميزانيتها السخية وتكنولوجياتها المتقدمة، فقد استخدموا الـ”داتا شو” خلال عروضهم الأدائية في المساجد ليرى الجميع صور المتأثرين بالإيدز وباقي الأمراض المنقولة جنسيا وخرافاتهم حول طبيعة فطرة الإنسان الجنسية، لعلمهم أن هيئتهم البصرية مشوّهة وغير لطيفة على العين، كان استخدام بدائل بصرية على نفس الشاشة التي يتحدث عليها أبطال كواكب سبيس تون يبني والذين كسبو ثقة الأطفال خطوة خبيثة لكن فعالة وبشدة.

لم كقصة حمل فتاة  بالخطأ بعد أن استخدمت منشفة أخيها الذي استمنى خلال استحمامه وقصص سخيفة أخرى متعارف عليها مجتمعيا ومتداولة حتى في المدارس، بفضل حملات التنوير السلفية نشأ جيل يتنافس لحفظ القرآن حتى يشاهد ما تبثّ سبيس تون وأفلام ديزني المدبلجة للعربية بتكنولوجيا الداتا شوو التي تركها السلف بعد مرورهم الجافّ بأحياء عمان الفقيرة. فبالرغم من جهودهم الحثيثة لغسل أدمغة الأطفال كان لا بد من ترغيبهم، فيصعب على الطفل إسقاط تجربة رجال قوم لوط البالغين العاقلين المكلفّين على نفسه. تأقلم الدعاة مع مرور السنين مع ذكاء الأطفال وتعلموا أن عليهم زرع هذه الأفكار بجرعات متباينة بين زخم رشقات الدوبامين عند مشاهدة افلام ديزني وبعد توزيع الحلوى خلال عروضهم الأدائية.

مقابل الحديث عن الفطرة والغريزة
يجدر بي ذكر خطة والدي أنس القاسية والفعّالة بعض الشيء، التي ترتكز على أخذ رواتب أولادهم فور استلامهم لها، واقتطاع مصاريف المنزل ومصروفٌ يومي محسوب بدقّة لكل فرد من راتبه، ثم يدّخر الباقي حتى تجمع مصاريف تجهيز بيت ومهر الزواج لكل منهم بدءا بالابن البكر. لكن وكجميع الأطفال والمراهقين فمصروف أنس لا يكفي لسدّ رغباته، فيسرّب أنس بعضًا من راتب الساعات الإضافية أو حوافز حفظ القرآن لجيبه قبل تسليم النقود لأبويه، فتسدّ مدخراته المسرّبه حاجته من دخان وتسالي واشتراكات محال “الكاونتر” ومقاهي الإنترنت التي بدأ يعتادها بعد بلوغه. فور جمع أنس لمبلغ كافٍ يشتري لنفسه جوالا بالسر، ويبدأ بتحميل ومشاهدة الأفلام الإباحية المغايرة بشراهة، ويتغير مكان لقائهما إلى أسطح بيوتهم والكراجات والزوايا الخالية من الحي. يُشرك أنس صلاحا بمشاهدة الأفلام الإباحية المغايرة، ويدفع صلاح لتطبيق ما تفعله النساء في بعض هذه الأفلام، وخلال مدة قصيرة تتحول علاقة استكشافهم الطفولي وحبهم البريء في صومعة المئذنة إلى علاقة تتسم بالاعتداء، ويلعب فيها أنس دور “تبع الأولاد” المستميل والذي يختزل التبادل بينهم لاستخدام جسد صلاح للانتشاء حين الحاجة. يعيد أنس بناء وتبنّي صفات مختلفة من أبيه وإخوته، وفجأة أصبحت السنة التي تفرقهما بالعمر وكأنها عشرة. لاحقا، طلب منه أبوه تغيير عمله والبدء بتعلم صنعة مع مواسرجي الحي، وأصبح يأخذ يوميات صلاح مباشرة، ضاقت الأمور على أنس ولم يعد يقدر على تسريب أي مبلغ من راتبه كما في عمله السابق، وبدأت حياة الشاب الذي يجمع النقود للزواج في أقرب وقت ممكن أقرب وواقعية أكثر.

على الضفة الأخرى يبدأ صلاح بالتعلق بأنس أكثر كلما زاد خوفه من فقدانه لبعده وتقطع مقابلاتهما، فيبحث عن أي سبب للقائه ويبدأ بمحاولات لتغيير شخصيته وطريقة حديثه بحثا عن أي طريقة لإعادة إحياء شعلة أنس كما في السابق، يبدأ صلاح بالتدخين واستخدام أي نقود يدخرها لشراء السجائر ودعوة أنس للتدخين بعد ضائقته المادية الجديدة، وتتطور العلاقة بعد عدة أشهر إلى تبادل للمنفعة، كلما وفّر صلاح المزيد من السجائر والنقود ومتّع أنس أكثر كلما امتد الوقت الذي يمضونه سويّا. لم يكن هناك طوال مدة العلاقة أي مساحة أو وعي بأهمية الحديث عن المشاعر ومبادلتها بوضوح، ففي كل مرة سألت فيها صلاح عن أي ذكريات لمحادثات حصلت بعد علاقة حميمية! يفكر مليّا ولا يذكر أي شيء سوى بعض المرات التي تحدثوا فيها عن النشوة أو عن الألم الذي بدأ صلاح يشعر به بعد بلوغ أنس وتضخم قضيبه المفاجئ، أو الموضوع الأكثر طرحا وهو أن عليهما التوبة مما يفعلان.

بعد صلاة الجمعة يتجمّع أهل الحيّ بمجموعات متفرقّة في مختلف زوايا وأنحاء المسجد وخارجه كالعصافير عند الغروب ويعلو ضجيج أحاديثهم، ويجلس الطلاب في حلقة واسعة في وسط المسجد يجتمعون كلهم بمختلف أعمارهم يتحدث لهم المرشدون والشيوخ في الخطط المستقبلية وأبرز الإنجازات والأهم من ذلك يتم توزيع جوائز الحفّاظ والطلاب المجتهدين، يتوّجان صلاح وأنس بين بضعة أطفال آخرين بقلائد ومكافآت تشعّ لها عيون الجميع حماسا غبطة وحسدا. بعد فترة انقطاع طويلة عن الخلوات الجنسية يذهب أنس بفخر مباركا لصلاح بعد صلاة الجمعة بخطة استيلاء على بيته خلال خروج عائلته لزيارة أخيه لرؤية حفيد العائلة الجديد، “خطة أنس جهنّمية كانت! أجاني فجأة هيك بعد ما راح عن بالي، المهم رحت بعد ما ناموا أهلي ركض لعند أنس حالق ومزبط حالي وحاطّ عطر، كانت ليلة رائعة حتى فجأة كبس علينا أبو أنس بعد ما صارت مشكلة عند بيت أخوه و قرروا ما ينامو، كان أول واحد فات عالبيت وما انتبهنا ولا سمعناه لأنو كنا طافيين كل ضواو البيت و مشغلين التلفزيون منحضر قنوات إباحية عالهوتبيرد1 وسكّر باب البيت وراه بسرعة”.

.العمل الفني: ق

يمسك أبو أنس بهما متلبسين وفور إشعاله النور يراهما مغمورين ببعضهما عراة بالكامل، يتسمّر محاولا بجهد استيعاب ما يرى، ظهرُ أنس ووجه صلاح الذي إصفرّ خوفا حالما وقعت عينه على عين أبي أنس. في هذه اللحظة يرمي صلاح أنس على الأرض لارتداء ملابسه ويتسمّر أنس من الخوف ولا ينظر لوالده أبدا، يطلب أبو أنس من ابنه ارتداء ملابسه والذهاب لمساعدة أمه بحمل بعض الأكياس، يتمالك غضبه الشديد محاولا تدارك الموقف قبل وصول بقية العائلة، يقف صلاح ينظر الأرض والعرق ينهمر من جبينه فيضربه والد أنس بكفّه على خده بقوة ويأمره بعدم الاقتراب من أنس مرة أخرى.

لا يلتقي صلاح بأنس بعد تلك الحادثة لبضعة أيام حتى صلاة الجمعة اللاحقة التي يرى فيها صلاح آثار الضرب المبرح على جسد أنس خلال خطبة الجمعة، فيذهب مسرعا للاطمئنان عليه بعد خروج والده ويتحدث معه، لكن أنس يرد بجفاف تام بدون النظر في عيني صلاح. “ما بخبي عليك، ارتحت شوي وارتعبت كتير، أول اشي لأني شفتو متعاقب ورجع للحياة طبيعي بعد ما ارتعبت كم يوم انو أبوه قتلو، وثانيا لأنه صار تقريبا أسبوع مارق عالقصة وأهلي ما وصلهم أي خبر لسا، فصرت تحت رحمة أبو أنس اللي بدون ما يهددني يقدر بأي وقت بس يحكي مع أبوي بعد الصلاة أني كنت بتلاوط مع أنس! وحييجيني العقاب وأنا مش جاهز، فعشت لفترة طويلة يمكن حتى اليوم بشك خرائي، يعني ممكن راح حكى لأبوي بس بابا خبا الموضوع، ما عمري قدرت أعرف جد، وبصراحة بطلت مهتم، أصلا ما ضل إلا أنا أموت مش حاكي باللي صار، لأنو أبو أنس مات موتة بطيئة وبشعة بعد سنين مرض وما رحت عدفنته بس شفت أنس عزّيته ودخنّت معاه كم سيجارة ورى بيت الأجر ومسكت يده وعصّيت عليها قبل ما أروح”.

مرّت بضعة سنين على آخر لقاء، التحق صلاح بجامعة بعيدة عن الحي الصغير وبدأ التعرف على أصدقاء جدد شغلوه عما يدور بعيدا داخل قلبه المنفطر الذي بقي أنس عالقا فيه يعاود الظهور ويختفي مع تقلب الأيام وبين السهر والأحلام. كأن علاقته بأنس ومشاعره  وما تختزله أصبحت روحا عالقة وسط رئتيه تكمش قفصه مع مرور الوقت وفوق أكتافه مثقلا بحملها، ولا يبادل حملها مع أحد آخر أو يملك أي نافذة ليضعها عن قلبه ولو مدة قصيرة للراحة، لكنه يحافظ وأنس على صداقة سطحية بين المهاتفات في المناسبات واللقاءات العابرة في العزاءات والأعراس. بعد عدة سنين يتصل أنس بصلاح بعد فترة انقطاع طويلة ويتحدث له برزانة واشتياق يعلمه بزواجه القريب ويدعوه لحفل الشباب وحمام العريس. مجموعة من المراهقين والشباب وبعض الرجال يتجولون بالمناشف حول خصورهم والصابون العالق على شعرهم وينزل عن ظهورهم وبين الساونا والجاكوزي، يدخل صلاح ليسلّم جسده كالباقين لرجل المساج الصامت الذي لا ينطق إلا بـ”أشد أكثر ولا أرخي”، وبين الفينة والأخرى يسمع صوت جلبة مباطحة خارج غرفة المساج، وأصوات الصفعات على الأجساد ومحاولات “بعص” لأنس وصوته الحاد الذي لا يزال أنثويا بعض الشيء عند الصراخ وانزعاجه من هذه العادة لحرمتها وعدم ارتياحه لها. يخرج صلاح ويتبادل النظرات من بين الجميع مع أنس من الطرف الآخر لمصطبة الرخام وسط الغرفة. ينتهي زفّ أنس في الحمام ويخرج الجميع للجلوس حول النافورة، ويؤخر صلاح نفسه ويومئ لأنس بعينيه للانتظار حتى يخرج الجميع ويختلي به، يحاول صلاح التقرب من أنس مرة أخيرة، يتلمّس جسده بحذر وبطء وكأنه يستكشفه لأول مرة، ويحاول التقرب منه أكثر لكن أنس يدفعه، وبهمس غاضبا يلقي عليه بعض المواعظ ويسأله أن يحيد عن مرض اللواط ويصرّ على صلاح أن يتوب عن كل ما دار بينهما في السابق وأن يتوقف عن فعل ذلك مع أي شخص آخر لأنه ذنب يبيح دمه وبالأخص بعد أن أصبح بالغا مكلفا.

من يرضخ للمجتمع حتى وإن كان معتديا يصوّره الجميع كمنتصر، هو بالنهاية وبكل انتفاعاته الذي يخسر معادلة “الحرية” والراحة بالحياة الكريمة، كبُر أنس ليلعب دوره الافتراضي الذي كان أخطأ بالحيد عنه (في ظنّه) باتباع فطرته وحب استكشافه كطفل وما يمكن أن يؤول إليه، خرج بحثا عن الموت محاولا أن يكفّر عن أكبر ذنوبه، وهي كونه ما هو. “بعيد عن كل إشي صار بينا، برتعب كتير وبصير على حافة الانهيار بس أتخيل حالي مكان أنس عم بموت بوسط معركة ما عندي فكرة أنا أي طرف وشو دوري الفعلي فيها، وبكامل عرائي بين الحياة والموت، عفّتي وذنوبي أمام ربّي، وبين الحقّ ونفسي، بلاحظ إني لسا نفس الطفل اللي كان بحب طفل تاني وبقضي ساعات غايص فيه ومتيّم بأصغر تفاصيل جسده، وبلاحظ انو برحلة انقلابي وإيماني اللي جاهدت نفسي حتى أوصله، كلو صار بدافع نظرتي لنفسي اللي صار أساسها إنو وجودي نجس وقذر وخطيئة محرّمة! بضل أحاول أمسح هاد الذنب عني وعن حقيقتي حتى أوصل أسمى أشكال الحق اللي ممكن اختبرها واللي هو الموت لأكتشف إنه حقيقتي ما عمرها تغيرت ولا حتتغير ونطفتي هي نفس النطفة مهما بعدت وشو ما عملت.”

المفارقة السوداوية والداعية للسخرية في تحريف “الفطرة السليمة” واستخدامها كذريعة لتجريم وتحريم وإعادة صياغة مفاهيم دينية عقائدية، ودنيوية سياسية واجتماعية كثيرة لتصبح قابلة للعجن والتحديد والتنقيح من أصحاب السلطة، هي أن تلك الصيغ لا تخلق إلا مجتمعات مكسورة وانهزامية بثوابت رخوة تحتشد لتموت أو تعيش لحاقا بحقّ زائف، كذيل أبو بريص الذي يضحَّى به وقت الشدّة، وإن قاوم الذيل ونجى يعود أبو بريص ليأكله عند زوال الخطر. في خسارة أنس صدام “الفطرة السليمة” وتغيّر نظرته لنفسه كشخص بجوهر نجس، وانهزامه أمام السلطة التي يعيش تحت ظلها، ولاحقا اختزال كل عاره كرها وجلدا بالذات حتى ذروة  نهايته المأساوية بعد هروبه من عمان والتحاقه بعدة ميليشيات مسلحة في سوريا “للجهاد” وموته بعد عذاب دام أياما لشظيّة استقرّت في دماغه، قمة انهزام السلطة وحربها الوجودية لتحريف “الفطرة السليمة”.

  1. هوت بيرد (بالإنجليزية: Hot Bird)‏ هي مجموعة من الأقمار الصناعية التي تديرها يوتلسات، وتقع في 13 درجة شرقاً فوق خط الاستواء (الموقع المداري) ويغطي إرسالها معظم أنحاء أوروبا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط.
    وتنقل كوكبة هوت بيرد القنوات الإذاعية الرقمية والتلفزيونية فقط بما فيها القنوات المجانية والمشفرة. بالإضافة إلى هذا هناك أيضا بعض الخدمات التفاعلية وخدمات برتوكول الأنترنت. وتعمل الأقمار حالياً في المدار 13 درجة شرقاً ويتم ترقيمها على الشكل التالي: 13 بي و13 سي و13 دي.