بقلم: شرو
.العمل الفني: ق
هذا المقال من عدد سنة ورا سنة
قلّ أن تمر ليلة عاصفة كهذه على عمّان، تعصف الريح كلّما اقترب منتصف الليل، ويعلو هسيسها بينما يملأ زعيق حديثي الولادة السماء كأنّه نعيق غربان تتصارع، يتهادن صفيرها الحادّ مع شقوق الشبابيك، ويغزو القلوب في البيوت المرتجفة. دوامة جلبة لا تغفو لها لحظة حتى تيأس وتظنها أبديّة، ليحطّ آذان الفجر راحته على قلوب أهل الحيّ ويذكّر العاصفة بالحيّ على الفلاح.
تسري عادة في الحي بالإفاقة على ثلاث مراحل، بداية بإيقاظ بعض الآباء أبنائهم قبل خروجهم المبكر لصلاة الفجر مع أذانه الأول، فإن لم يفلحوا تحاول الأمهات قبيل الإقامة باستعجال أكبر، وأخيرا مع إقامة الصلاة، يفيق المتقاعسون الكسالى ويخرجون مهرولين إلى المسجد. بعد إصرار شديد من أمّه، يفيق صلاح متأخرا، ويرتدي فروته فوق بجامته و يهرول في عجلة نحو المسجد، ناسيا أن يتوضأ.
صلاح، طفل في الثانية عشر من العمر، أبيض البشرة أشقر. ذكي، لكنه لا يذاكر إلا بالعصا. ولد في الأردن بعد هروب عائلته من الخليج إثر الحرب عام 1992. ارتحلوا بين أحياء كثيرة في عمّان حتى استقروا في هذا الحي الصاخب والمكتظ باللاجئين والمهاجرين. يخفي أصله وتاريخ عائلته الحقيقي عن زملائه والعامة قدر الإمكان، ويبدي ما يتماشى ويسهّل حياته حسب الموقف. لم يعتد اشتياقه لوالده على الرغم من غيابه طوال السنة. يعمل صلاح سرا، يصنع الطائرات الورقية ويبيعها في مكاتب القرطاسية في الربيع والصيف، ويعمل في محل سحلب وقشطة بالعسل في الشتاء، كما يتناوب مع صديقيه على بقعتين صغيرتين في سوق الحيّ لبسطة ألعاب صينية، وبسطة ساعات “ولّادي، رجّالي” في رمضان.
الصعود الأول
يصل صلاح للمسجد ويتذكر أنه لم يتوضأ، وبدل المرور بمتوضأ المسجد، وكما العديد من الأطفال المتمردين مختبئين في باحات المدارس أو على أسطح المنازل أو بين السيارات في الأزقة أو محال الإنترنت و”الكاونتر” المحيطة بالمسجد، يتسلل صلاح لمخبئه في المئذنة. مع بداية العطلة الشتوية دشّن صلاح عادة جديدة عند فقدانه الدافع للصلاة بالصعود متخفيا الى شرفة المئذنة من الباب الفرعيّ في الطابق الثاني للمسجد، والانتظار ليمشي مع والده إلى البيت بعد الصلاة. بعد صعود صلاح، يتفاجأ بطفل آخر يلحقه ويجلس عدة درجات قبل الشرفة، سرعان ما يلقي صلاح السلام مرتابا لكن صوت الريح يطغى على صوته فينتظر حتى تتلاقى أعينهما ويحييه بإيماء رأسه فيرد الطفل المريب برفع حاجبيه ورأسه قليلا، يتبادلان ابتسامة. يعدّل صلاح جلسته محاربا إفشاء حماسه الخجل بالتعرف إليه.
مئذنة المسجد كما أذكرها (من كثر ذكر صلاح لها)، مميزة بتصميمها الذي يمزج بين المآذن الأموية والمملوكية، طويلة بدرج دائري، لها شرفة ثمانية الأضلاع من الخارج ومزخرفة بنقوش تفتقر الدقة ومختلة السيميترية من الداخل وغير مكتملة، في الغالب هي اجتهاد هاوٍ شغوف ومتمرد لم يُطلب منه نقش هذه الزخارف. المئذنة ليست طويلة كفاية لتحمل شرفة أخرى ولكن لطالما تمناها صلاح بشرفة أصغر في وسطها، وفي القمة جوسق1 على رأسه هلال لا يطاق إلا بسلم. للمئذنة بابان أحدهما في الطابق السفلي قرب المحراب، ولحسن حظ صلاح فالباب الثاني في الطابق العلوي الذي لا يستخدم إلا عند الحاجة.
بثُّ الأذان للسماعات الخارجية عمل المؤذّن أو الآذن وهو والد شريك صلاح في بسطة الألعاب، أبو رائد المطلق مرتين والمتزوج حاليا من اثنتين، كرشه كبير ومشدود قاسي، ينعته صلاح بـ”أكولٌ، نكوحٌ، يحبّ الحلوى”، يحتكر الأطفال الذين يحضرون صلاة الفجر مبكرين حبه وحنانه، كبير في السنّ وعصبي، دائم الشجار مع باعة الخضار والأطفال الذين يلعبون حول المسجد، كما يكسر مرايا كل من يركن سيارته على باب منزله لأكثر من خمس دقائق. بين الفينة والأخرى وعلى حسب مزاج حضرته ومدى رغبته في معاقبة أهل الحي حين ترتفع أعداد المتغيبين عن الصلاة لعدة أيام متتالية، فيبثّ الصلاة من الأذان إلى السلام كاملة عبر السماعات الخارجية. لكن في هذه الليلة لم يفعل ذلك، فكان صوت الإمام العميق يتسلل بهدوء إلى المئذنة مراقصاً هبّات الرياح ، يقرأ الإمام بصوت جهوريّ ووقفات مطوّلة من سورة التوبة بمقام النهاوند المفضل لديه “إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا….” (39)، ينظر صلاح للطفل الغريب ويكمل مع الإمام جهرا “إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ…” مبتسما بحماس ومشيرا إلى أنّ الآيات تنطبق عليهما! مختبئين في المأذنة هربا من أهليهما، وإذا بالطفل ينهض غاضبا ويخرج من المئذنة بخطوات واسعة. نظر صلاح للمكان الذي كان يشغله على الدرج… يتوقف صلاح عن الحديث لبرهة وينظر في عينيّ ويقول: “بتذكر وقتها انهزّت ثقتي بحالي اللي عززلي ياها الولد الجديد بالزبط قبل شوي لما قعد عالدرج! بضحّك إنّي حتى ما بعرفه ولا عندي فكرة ليه هرب من الصلاة ولحقني فوق، بس خلص سبحان الله كيف الدنيا… لسا بفكّر إنو الآية كانت زي إشارة من الله لشو المستقبل مخبيلنا”. يستكمل صلاح تمتمة باقي الآيات من سورة التوبة حتى بعد ركوع المصليين، مبصرا من خلال شرفة المئذنة سارية رغدان (أطول سارية علم في المملكة الأردنية) وعلمها الكبير ممزق الأطراف بفعل الرياح العاصفة.
في وقت لاحق من ذلك الأسبوع، وبعد المدرسة يركض صلاح إلى ساحة المسجد للعب مع أصدقائه هربا من واجباته ومسؤوليات البيت. عند العصر نزل صلاح منهكا للوضوء وغسل عرق اليوم عن جسده، هناك، رأى طفل المئذنة ينهي وضوئه، فذهب نحوه واقترب منه بحماس وسأله عن اسمه (يردّ الطفل بلسان غليظ بعض الشيء متأثرٌ باللكنة العراقية)
حلو اسم أنس زي اسم الأول عصفّي، أنا اسمي صلاح! ليش هيك بتحكي، إنت عراقي؟ –
لأ! أهلي سوريين بس انولدت ببغداد. –
يسأل أنس عن سبب غضبه وخروجه الدراميّ من المئذنة ولكنه يتجنّب الإجابة، اندفاع وفضول صلاح وغمر أنس بالأسئلة دفعه للتراجع عن إظهار استلطافه لصلاح ورغبته بالتعرف على صديق جديد في غربته، لكنه ينهي وضوءه ويخرج على عجل، فيصرخ به صلاح: “طب تعال بعدين في دوري تنس طاولة، وعنا حلقة ذِكر بعد المغرب”.
ثاني إثنين
مع دخول المسجد ومرورا بفنائه، تصبح كل أصوات الشارع أبعد، وتفقد حدتها وتنسجم وكأنها نغم موزون. من بين أصوات الأولاد الذين يلعبون في الشارع الخلفي وباحته، وجلبة السيارات من البعيد عند مطلع السوق، وباعة الخضار والفواكه عند كراج المسجد يأتي صوت مراوح السقف التي تعمل بهدوء ومراوح الحائط التي تحوم يمينا ويسارا ببطء تعمل كموازن للضجيج في صدّ أصوات الخارج، كعجيج الفرات مندمجا مع صوت عائلة تغني وترقص على ضفته الأخرى. يتناسى العمال عملهم والعجائز بيوتهم منغمسين على السجاد المبطن الكثيف لا ينتظرون شيئا غير الصلاة ونسمات الهواء التي تمر بين الحين والآخر من النوافذ العالية.
أنس، طفل في الثالثة عشر حنطي أمرد، بخامة صوت أنثوية عند الغناء، شخصيته قوية على عكس معظم الأطفال الذين يشتركون صفاته، مخطط ماهر وطموح، يظهر القوة والمسؤولية والذكاء الاجتماعي ليخفي هشاشة قلبه المرهف والحساس. يقدّس أنس العائلة ويخاف بُعدها، لذلك يتمرد بخفية وحذر. شره التدخين سرّا، ويعمل في مطعم فلافل مؤقتا إلى حين أن يقرر والده مصير حياته الجديدة في الأردن، التي انتقل إليها مع عائلته خلال غزو العراق. عاش أول سنينه الدراسية في بغداد وسمك جلده بعد مروره بعدة تجارب قاسية لاسيما خلال رحلة البحث عن ملجأ آمن بعد أن وصلتهم مكالمة تأمرهم بالرحيل فورا لأن بيتهم على تلّة معرّضة للقصف.
بعد المدرسة بين صلاة الظهر والعصر وخلال القيلولة الجماعية في المسجد، يجلس البعض في مجموعة يتبادلون الأحاديث والنميمة والقصص وينشدون الأناشيد والشعر. في الزاوية، عجوز مضطرب العقل وغريب الأطوار، يبصق أحيانا عند الغضب بعشوائية على جميع من في الشارع، لكنه رزين في المسجد ويقرأ القرآن بصوت جهوريّ جميل ومريح، صوته يشفع لتصرفاته الفضة فلا يأخذه أحد على محمل الجد إلا عند دخوله المسجد والبدء بقراءة القرآن، وكأنّ مبرره الوحيد لاستحقاق مكان له في الدنيا هو صوته وشجنه.
لم تمر إلا بضعة أشهر على لقاء المتوضأ، والآن يلتقي صلاح بأنس بعد المدرسة، ويذهبان للمسجد يقفزان للوضوء تحت مياه الشرب الباردة يغمران رأسيهما بها ويشربان منها حتى تكاد تخرج المياه من أنوفهم. يأتيهما عجوز الزاوية يصرخ بانزعاج، فيركض صلاح هربا منه ويقفز فوق المستقلين كالقطط في أرجاء المسجد، أما أنس، فيتجنّب التوبيخ مخفيا حماسه ومدعيا الرزانة.

.العمل الفني: ق
“بعد فترة أبو رائد انتبه على بلكونة المئذنة انها مرتبة ومنضفة كأنه حد عايش فيها، وصار يسكّر باب المئذنة بالقفل بس ما طوّل الموضوع. عالصيف أنا وأنس فتنا مجموعة الحفظة، واللي هي مجموعة ولاد هدفها تحفظ القرآن كامل قبل ما توصل الجامعة وطبعا كل حد بدلع هاي المجموعة وفي جوائز ومحفّزات وساعات لعب طويلة للي بخلص واجباته وحفظه، وما بطلع لأي حد يفوت المجموعة إذا مش حافظ عشر أجزاء من القرآن على الأقل، ومثبت حسن سلوك. المهم طلع أنس ماكل قتل من أبوه خير الله حتى حفّظه نص القرآن تقريبا من أيام ببغداد، قدمنا للاختبار ودخلنا المجموعة أنا وياه وكمان أبو خمسة تانيين، وطول فترة الصيف نخلص واجباتنا بكير ونكمل غرام عالطالعة والنازلة، ما خلينا زاوية مضبضبة إلا ونحشر بعض فيها، كان الصيف شهر عسل وكان المسجد قصرنا، براد وبراح، طاولة تنس هون، وأتاري هناك منزهق بنروح نلعب كرة بالساحة. لولا أنس كان زمان انكشفنا بس هو كتير بدير باله! بدون حذره ما كان صمدنا على مصايبنا بدون ما ننفضح. المهم بعد ما أثبتنا وجودنا وشطارتنا رحنا للشيخ زيد اللي استلم المسجد بعد ما أبو رائد ضربه الديسك وقعد في البيت، وإستأذنّا منه يفتحلنا المئذنة، بعد ما اترجيناه طبعا بحجة إنه رح نصير خلفاء “شب المئذنة”.
انتشرت أسطورة بين المصليين عن شاب أصبح رمز الخشوع والتعبّد في الحيّ، يقال إنه شاب نحيل زاهد وجهه مليء بالخدوش والندب، كان أحد الشباب الذين يجلسون مقابل المسجد في انتظار من ينادي بحثا عن عمّال. كشفه أبو رائد عدة مرات يتسلل للمسجد للنوم هربا من بطش أبيه السوكرجي (مدمن الكحول) الذي كان يعنّفه. فشغل المئذنة لفترة، خاشع ومتعبّد، كأنه أسطورة تراجيدية وتجسيد معاصر لقصص الأنبياء والصالحين، وكما الكثير منهم فقد اختفى فجأة ولم يره أحد بعدها. لا أعلم مدى صحة هذه الرواية لكن صلاح كان متأثرا بقصة الشاب ولطالما تحدث عنه بحنيّة.
“المهم وافق الشيخ زيد نستخدم المئذنة بشرط أنه بأول أسبوع نوصل هدف الحفظ تبعنا، وفزنا الرهان بجدارة وفتحولنا المخزن نطول مخدات وسجاجيد قدام نرتب البلكونة، وهيك صومعة المئذنة تاعة زمان صارت مجلسنا أنا وأنس رسميّا، وصرنا نقضي وقت كتير هناك وبإذن من معالي الشيخ، بس لو يعرف شو كنا نعمل طول الصيف! صرت أطلع أول ما يبلش يأذن الفجر أفيّق أنس أو العكس ونطلع عالمئذنة ليقيموا الصلاة، وننزل نصلي ونسلم عأهالينا وشيوخنا ونرجع فوق نضل نحفظ لنخلص واجبنا، مع استراحات غرامية هون وهناك طبعا، بحس وقتها لقينا معادلة الفوز بالجنّة دنيا وآخرة.”
الشيخ زيد هو المؤذن الجديد للمسجد ومسؤول مجموعة الحفّاظ، طالب جامعي أجل سنته الأخيرة للمرة الثالثة حتى يجمع المال لاستكمال دراسته، هاديء ورزين، وعلى غير عادة معظم المؤذنين العجائز صوته جميل ومتمرّس بالمقامات وحافظ للقرآن، يمضي معظم يومه في المسجد ويبقيه مفتوحا للجميع من الظهر وحتى العشاء على مدار العام ولا يغلقه إلا عند الحاجة. بعد جمعة شاقة وبين صلاة المغرب والعشاء يصعد الشيخ زيد لتبديل أحد مصابيح المئذنة، مرهقا يصعد السلالم بهدوء ليجد أنس وصلاح مغمورين بأحضان بعضهما، فيقترب للتحقق ويهتّز جسده من الغضب ويحمرّ وجهه خجلا مما يرى، ويملؤه شعور بالقلق. يجد صعوبة في استيعاب الموقف، لكنه يتمالك غضبه ويعاود الصعود مصدرا بعض الضجيج عند المدخل. يأمرهما بالخروج وأخذ أغراضهما الشخصية ويغلق المئذنة بحجة بعض الإصلاحات، يجلس عند الشرفة قليلا وتبدأ هواجسه بالتصاعد حول ما إن كانا يفعلان أكثر من ذلك! هل يدخنان أو يتعاطيان المخدرات؟ هل يوجد أي صور أو مطبوعات إباحية؟ وينبّش علما يجد أي شيء يتدلل من خلاله لفهم أو تبرير فعلة اثنين من أفضل طلابه المشينة! لكنّه لا يجد شيئا ويخرج شمتاناً على سذاجته بظنّه الحسن بهما وفخره بصومعة المئذنة وطالبيه سلاطين الخشوع وحفظ القرآن.
يكتم الشيخ زيد سرّ المئذنة لعدة أيام ويفكّر مليّا لمن يتحّدث وكيف. يختلي بصلاح بعد درس الثلاثاء بعيدا عن الجميع ويبدأ حديثه معه محاولا أن يوضح لصلاح بعض الأكواد المجتمعية والدينية حول اللواط واشتهاء الرجل للرجل والخطر على الأطفال من “تبعون الأولاد” والتأثر بما يفعلون، وعن صفات جسدية معينة تجعل من الأطفال عرضة للاشتهاء من رجال دون صفات أخرى. يشرح الشيخ زيد بطريقة “موضوعية” لا تخلو من التأثر بنظرة الفكر السلفي ضيقة الأفق والأبوية تجاه تبرير شهوة “تبع الأولاد” خصيصا بدفع اللوم على الأولاد.
يؤكد الشيخ توفره إن احتاج صلاح الحديث في حال تعرّضه لأي محاولات استغلال جنسية من أشخاص أكبر منه أو أقرانه، بذريعة نصحه وبسبب طبيعة جسد صلاح “نظافته” ولطفه. يخاف صلاح شاكّاً بأن الشيخ زيد يحاول استمالته أو استغلاله، وبعد إصرار زيد ورشقه بالأسئلة والمواعظ فوجئ بانهيار صلاح وبكائه الشديد والنظر بعيدا لشعوره بالعار. وبعد محاولات صلاح العديدة بين الحديث والبكاء يفصح عن قصة اغتصابه من شيخ مجموعته قبل عدة سنوات خلال رحلة مع النادي الصيفي، يتحدث وكأنه يعترف بذنب اقترفه، سرّه الذي لم يخبر به أحدا حتى اللحظة، يتمالك صلاح نفسه ويزداد خوفه من زيد وعقابه، لكن زيد يفاجئه ويحاول تهدئته. “بس زيد كان طالب جامعي، مسكين ما كان عارف شو يحكيلي وعالأغلب ما عمرو مر بتجربة مباشرة مع الإغتصاب من قبل، ومع أنه شاب ذكي ومختلف عن باقي جيله بس ردة فعله الأولى كانت بالحكم عليّ ولامني على إني سمحت ينعمل فيي هيك واني ما فضحتو مباشرة، بس بالآخر مسك حالو أخد نفس ووقف عن لومي وبهدلتي وحكالي منطقي جدا الشعور بالخزي والتوبة هي ملجئي الوحيد.” أعاد زيد النظر فيما سيفعل بصلاح بعد أن رأى خوفه الشديد وشعوره بالعار، ارتاح زيد أخيرا لأنه وجد مبررا لحميمية الطفلين في المئذنة.
لم يكن مستعدا أو مجهّزا لمثل هذا الحديث، لكن بعد تريّثه وبحثه لعدة أيام أخرى في الموضوع يعاود الانفراد بصلاح ثانية ليخبره بما رأى على شرفة المئذنة متمالكاً غضبه. وبعد تأكيد أنه سيكتم سرّيه الكبيرين، هدده بإخبار أبويهما والإمام، إلا أن صلاح يبدأ بالارتجاف خوفا وانهمك بالبكاء حتى احمرّت عيناه واسودّ وجهه، وترجى زيدا بذلّ وعار شديدين يعده بالتوبة عن ذلك فورا ويترجاه ألا يخبر أحدا، وبالتحديد أنس كي يسهّل دعوته للتوبة والحيد عن “اللواط” بدون ترهيبه فوالده قاس جدا وقد يقتله لو علم بما حصل. يوافق الشيخ زيد بشرط أن يثبت صلاح توبته بحضوره إلى جميع الصلوات في المسجد. يرقّ قلبه لصلاح بعد الحديث الطويل والتأكد أن صلاح وأنس لم يبلغا بعد، ويطمئنه أخيرا بأن التكليف يبدأ بعد الاحتلام (البلوغ)، ويطلب منه معالجة هذه المشكلة والحيد عن الفواحش قبل أن يبلغ ويحلّ دمه.