بقلم: زين يوسف
ʚɞ …。✧ ميم السليلي ・゚:* ~♡ :العمل الفني
هذا المقال من عدد الذبذبات
عند مشاهدتك لأي مشهد ولادة في سياق أحداث مسلسل أو فيلم ستجد بأن أول ما يقوم به ذلك الطفل الذي يتم إخراجه عنوة من رحم والدته هو الصراخ.. التعبير عن غضبه لانتزاعه من مكانه الهادئ الآمن إلى مكان يمتلأ بالضجيج والأصوات.. وبسبب تلك اللحظة ارتبط مفهوم الصوت بكينونة الإنسان وأصبح واحدا من أهم وسائل التعبير لديه عن المشاعر والأفكار التي تجول في صدره، سواء كانت تلك المشاعر مشاعر غضب أو سعادة أو حب أو حتى نشوة.. ولكن كأي أمر طبيعي الحدوث وغريزي المنشأ ما إن يقترب من مجتمعاتنا المليئة بالخوف من كل أمر حتى يتحول إلى أمر غير مألوف، فننتقل من الصراخ عند لحظة الولادة إلى الصمت لحماية ذواتنا ممن هم حولنا.
أبرز ملامح تشكل ذلك الصمت تبدأ عندما تستفرد بك المنظومة التعليمية لتقوم بوأد أي مشاعر داخلية تتعلق بهويتك الجندرية.. فصوت القرآن الذي يصدح في الصف بتفاصيل قصة قوم لوط يخبرك بأسلوب هو أقرب إلى التهديد بأن الأمر غير قابل للنقاش أو لترف الأخذ والرد.. ففي هذا الصف الممتلئ بالعقول المتسائلة الحائرة يتلى النص المُقدس فيلتزم الجميع الصمت المطلق تجاهه.. ولكن الأسوأ لم يحدث بعد.. فعندما يخيم الصمت بعد صوت تلك الآيات المهددة المتوعدة يبدأ الجزء الأبشع من جلسة التعذيب تلك والتي تقوم على إرهاقك نفسيا بإتباع أكثر المناهج الدينية تشددا في المؤسسة التعليمية في السعودية عن طريق تفسيرها بطريقة لا تقبل الجدل وتتلخص في تصوير المجتمع الكويري كمجموعة من المعتدين والمغتصبين وقطاع الطرق الذين تنتهي حياتهم بعقاب أسطوري مرعب!
تخيل أن تكون شخصا يعاني من الاختناق بسبب التعاسة الجندرية، أو ما زلت تدور في فلك التساؤل الجندري أو الجنساني، وزيادة على ذلك تجد نفسك تخضع يوميا لعملية ترهيب تجعل من الصمت الطريق الوحيد للنجاة بالنسبة لك.. إنها كلمات الرب التي تخبرك بأن أي كينونة جندرية أو جنسانية تحيد عن مسطرة الثنائية الجندرية والجنسانية هي كينونة مرفوضة من قبله.. فكيف حينها سيمكنك أن تخضع تلك الفكرة السطحية المفتقرة لأبسط قواعد المعرفة العلمية لمشرط النقاش؟
ولعل هذا الأمر هو من أكثر الأمور جدلية والتي تثيرها قصة قوم لوط، وهو الإصرار المتكرر والشديد على استخدامها كقصة أحادية التفسير، جامدة المعنى، لا يقبل القائمين على تلقينك لصوتها الأوحد المرونة الكافية للسماح بتفسيرها بطرق مختلفة قليلا.. فالقبول بوجود تفسيرات أخرى لا تربط بين المثلية الجنسية وبين الانتهاكات أو الاعتداءات الجنسية – التي تمتلئ بها تلك القصة – تنزع عن المثلية الجنسية جزءا كبيرا من الوحشية المتعمد إلصاقها بها، بل وستمنحها مظهر الميول البشرية الطبيعية رغم بعدها عن حتمية ثنائية الجندر والجنسانية، والتي يتربى عليها العقل العربي منذ مهده ويؤمن بها إلى لحده.. لهذا سنجد أن هنالك إصرار شديد على الترويج لصوت التفسير الأحادي ذك منذ سنوات الإدراك الأولى لدى الفرد من خلال المؤسسة التعليمية والدينية.. ذلك الإصرار الغرض منه هو تغليفك بالصمت والكتمان ومن ثم تزميلك (تحويطك) بالخزي والعار كونك تنحدر من سلالة مقتها الرب حتى جعل عاليها سافلها.
جميع تلك المشاعر ستعجلك بلا صوت لأن الصوت الوحيد المسموح به هو صوت إنكار هويتك الجندرية أو الجنسانية، وأي محاولة منك لإعلان تصالحك مع هويتك الجندرية أو الجنسانية وإيمانك بفطريتهما الشديدة يعني أنك تخلصت من قيود الخزي والعار التي أرادوا تطويق عنقك بها، وستقابل بعنف وهجوم شديدين.. لهذا قد يعتقد احدهم أنه اختار الصمت كوسيلة وحيدة للتعريف عن نفسه بينما في حقيقة الأمر هو دفعه نحو الإنكار الذي يتخذ أشكالا متعددة منها ما هو مليء بالمرارة كأن يصبح الشخص مجرد تكرار لأصوات الآخرين المهاجمة للتعدد الجندري والجنساني.. أي يصبح كائن يعاني من رهاب المثلية وكأنه بذلك يفر من ذاته بمقدار مهاجمته لمن ينتمي إليهم في حقيقة أمره.. إنها مقاربة عبثية ومؤلمة في ذات الوقت.. فهنا يجبر المحيط المجتمعي المليء بمشاعر رهاب المثلية الضحايا على الاختيار بين أمرين لا ثالث لهما.. إما الصمت المطبق وابتلاع آلامهم الشخصية، أو المشاركة في مهاجمة من اختاروا عدم الصمت وأعلنوا هوياتهم الجندرية أو الجنسانية بأصوات مرتفعة بعض الشيء.. وفي الحالة الأولى تحديدا قد يعتقد البعض بأن في خيار الصمت منجاة ولكنه سيجد نفسه وقد بدأ يساق إلى فخ آخر تبدأ فيه الأصوات من حول ذلك الشخص التعيس جندريا تتعالى بأن الوقت قد حان كي يرتبط بشخص من الجنس الآخر.. لقد حدد مصيره ويجب أن يخضع له بسبب قواعد العُرف الاجتماعي والأسري التي كما جحيم الرب لا تستثني أحدا من المغضوب عليهم منه.
ʚɞ …。✧ ميم السليلي ・゚:* ~♡ :العمل الفني
هنا سيجد ذلك الشخص الذي اختار مزاولة الصمت بأن ذلك المجتمع قد أحكم الحصار من حوله، وأصبح لزاما عليه بأن يأخذ لعبة الصمت إلى مستوى آخر يقوم فيه بمحاولة تجميلها بأطنان من مساحيق الكذب، لإخفاء صوت حقيقته التي تتحين الفرصة لتصرخ وتستغيث، لعل أحدا يخرجها من تلك الغرفة الضيقة المظلمة التي تم حبسها بداخلها منذ سنوات.. ولكنه سيجد بأنه كالشاة التي تقاد إلى ذبحها فإما الصمت والتجمل بالمزيد من الكذب وإما الصراخ بأعلى صوت يملكه ليكشف حقيقة كينونته.. وحينها لن يكون المجتمع أو الأهل هم ما يخشى منهم فحسب، بل إنك ستجد بأن المنظومة القانونية ستهب لنجدتهم لتساعدهم في إخراس ذلك الصوت ليعود مجددا إلى خانة الصمت.
فالمنظومة القانونية في معظم بلدان الشرق الأوسط تجرّم المثلية الجنسية أو أي مظاهر توحي باختيار المرء لكينونته الجندرية أو الجنسانية خارج المنظومة الثنائية سرعان ما ستقوم تلك المنطومة بملاحقته.. فهنالك العديد من أفراد مجتمع الميم عين ممن تعرضوا للعديد من الانتهاكات الجنسية الممنهجة أثناء عقابهم بالحبس بتهمة “الصوت” وما سارة حجازي إلا واحدة من أبرز ضحايا تلك التهمة.. هنا تقوم الدولة بإغماض عينيها وتصيب نفسها بالصمم وتمارس للمفارقة الصمت، ولكن هذه المرة سيكون الصمت عقابيا في المقام الأول ومعززا للمزيد من الانتهاكات تجاه من علت أصوات حناجرهمم، أو حتى أصوات أفكارهم بكينونتهم الحقيقية.
ولعل مواقع التواصل الاجتماعي ما هي إلا انعكاس آخر وأشد وضوحا لذلك التهديد المجتمعي المسنود بالتهديد القانوني والذي يعاني منه أفراد مجتمع الميم عين.. فلا نجد إلا فيما ندر أشخاص يعلنون عن أصواتهم الجندرية والجنسانية المختلفة – عن محيطهم الغارق في وهم الثنائية – وهم يضعون صورهم وأسماؤهم الحقيقية.. فالكثيرون يتخفون رغما عنهم خلف أسماء وصورٍ مستعارة لعلمهم بأن التعدي المجتمعي عليهم لن تمنعه المنظومة القانونية العربية، والتي تقوم في كثيرٍ من الأحيان بتشجيعه بطرق ملتوية لعل أبرزها إيجاد قوانين جاهزة التعليب، لتلقي بها تجاه أفراد مجتمع الميم عين كتهمة إشاعة الفسق والفجور أو خدش الحياء العام، أو التشبه بالجنس الآخر في المظهر أو الملبس.
كل تلك الأمور تجعل من خيار الصمت خيارا يرقى إلى مقام فرض العين كي تحمي نفسك كما جسدك من الانتهاك.. ولكنه كأي لعنة قد يتمدد ليشمل أكثر تفاصيل حياتك حميمية أي الجنس وخاصة الممارسات الجنسية بين الإناث باختلاف الكينونة الجندرية والجنسانية التي يتسقن معها.. ففي العالم العربي يتمتع الذكر على الأغلب بحرية الحركة وبقدرته على الحصول على الكثير من الخصوصية.. بينما قد تعاني بعض الأناث من محدودية تلك الحرية وبالتالي يصبح اللقاء مع الشريكة يفتقر في كثير من الحالات إلى أبسط مقومات الخصوصية.. لهذا نجد بأن معظم الإناث – باختلاف الهوية الجندرية والجنسانية – تتأصل فيهن لا إراديا ودون وعي ثقافة الأصوات المكتومة أثناء العلاقة الحميمية مع الآخر.. فالصوت هنا يكف عن كونه وسيلة من وسائل التعبير عن الاستمتاع الجنسي أو إيصال رسالة للشريك عن مدى اللذة التي يشعر بها الشخص أثناء العلاقة الحميمية، ليصبح مصدرا للخطر قد يؤدي سماعه من قبل أي شخص إلى انكشاف الهوية الحقيقية وبالتالي التعرض لتهديد الأذى الجسدي أو النفسي، لهذا تحترف الإناث الصمت أكثر من الذكور في المجتمعات الذكورية فهو أقرب إلى الغريزة الأساسية منه إلى الوسيلة التعبيرية في العقل الجمعي لديهن.
لقد ارتبط الصوت بالخوف في العقل الجمعي لدينا ولهذا بينما تتعالى أصوات الجميع كوسيلة من وسائل التعبير عن الهوية والفكرة والألم واللذة، يصبح الصمت أحد الأركان الرئيسية في شخصيات أفراد مجتمع الميم عين في المجتمعات التي تعاني من تأصل فكرة الكراهية تجاههم.. بل إن البعض قد يعتقد بأنه بممارسته الصمت تجاه كينونته أو الإعلان عنها فإنما هو يمارس نوعا من أنواع الاختيار الشخصي الذي يروق له.. ولكننا في تلك الحالة لا يمكن أن نعتبر هذا الصمت “تفضيلا” إلا إذا كان لا يترتب عليه أي نوع من أنواع المخاطر النفسية أو الجسدية.. لهذا قد يبدو الأمر في كثير من الحالات كاختيار شخصي تم بكامل إرادة ذلك الفرد ولكنه في حقيقة الأمر أصبح وسيلة من وسائل النجاة في المجتمعات التي تعاني من رهاب المثلية أو كراهية العابرين/ات، والتي يكون القمع فيها تجاههم أقرب إلى أسلوب حياة يومية.. الحياة التي تمتلئ بالكثير من الصمت وبالكثير من الأصوات المكتومة حتى في أشد لحظاتهم حميمية.