English

بقلم: ليلى ب
ترجمة: بثينة الحجار
العمل الفني: عمر خليف
هذا المقال ملحق بعدد الذبذبات

عام ٢٠١٥، كنت جالسة في حانة وسط مدينة تونس—إحدى الحانات “الكويرية” القليلة في ذلك الوقت. أرتدي خلخالا أهدتني إياه أمي، مكون من خيط مزين بخرز أزرق للحماية من الحسد. قالت عنه أعز صديقاتي في المدرسة الثانوية، في محاولة غير مباشرة للسخرية مني: “إنه شيء يخص السحاقيات”. لم يهمني رأيها، ولكن، في الجهة الآخرى من الحانة، رمقتني فتاة ذات شعر مجعد بنظرة من خلخالي إلى عيني وابتسمَت. مذهولة، لم أبتسم في المقابل؛ كانت تلك أول “نظرة مثلية” تستهدفني.

يمكنني بسهولة تمييز المرأة المثلية من مظهرها. بالطبع، تلمح النساء عن ذلك بأشكال متنوعة، أحيانا من خلال ارتداء تي شيرت مطوي الأكمام أو بنطلون مطوي الأطراف؛ “جورتس” أو بدلات، قميص فانيلا أو قميص رجالي واسع “داد شيرت”، نظارات شمسية غريبة أو جليتر، أو حلق (قرط) في الأنف أو حلق “لابريس”1 (فأس مزدوجة الرأس). ولكن بما أن “اللبس مثل الدايك”2 أصبح يعتبر أخيرا رائجا، ولم يعد ينظر إلى “الكامب”3 على أنه متنافر، فقد أصبح من الصعب التمييز بين المثلية والمغايرة، ومن بينهما بالمظهر.

مؤخرا، تساءلت شريكتي عن سبب إغفال محيطي في تونس ميولي الجنسية كل هذا الوقت. أخبرتها أنني يمكنني تقليل ما يشير إلى ميولي عبر التحول إلى فتاة تونسية عادية بتغيير تسريحة شعري أو إرتداء بعض الملابس الأنثوية. بينما تبقى لغة جسدي تلمح بالكويرية مهما حاول المظهر الخارجي إخفاء ذلك.

ما معنى أن يشير شكلك إلى كويريتك في مدينة مثل تونس؟ كيف تتيح أو تقيد أجواء المدينة، حركة التلميحات الكويرية؟ كيف شكل وجودنا المادي في شوارع تونس، استراتيجية إشارتنا؟ كيف نتفاوض نحن كنساء مع الافتراضات والتصورات الخاطئة حول ما هي الكويرية أو ما تعنيه؟

لهذا تحدثت مع بعض الصديقات والنساء الكوير حول تجاربهن في التنقل عبر الأماكن من خلال التلميح إلى كويريتهن. على الرغم من إعدادي مجموعة من الأسئلة، إلا أنني منحتهن مساحة للتحدث بحرية، وفي بعض الأحيان خرجنا عن الموضوع الرئيسي.

حول المظهر والتلميح في تونس
لست الكوير الوحيدة التي لاحظت انتشار “موضة الكويريات”. لقد انخرط العلماء والعالمات ومنظرون ومنظرات وسائل التواصل الاجتماعي وأفراد مجتمعنا في هذا النقاش لعقود.

كتبت مؤرخة الفن رينا لويس،4 عن تحدي الظهور بمظهر عصري مطابق للموضة ومواكبة الترندات الحديثة مع الاستمرار في إظهار هوية مثلية نسائية. علقت قائلة: “في وقت ما، كان الأمر بسيطا نسبيا: كنت ترتدين ما تريدين وتنسقينه مع أحذية ضخمة أو بوت. ولكن بعد ذلك، بدأ الجميع في ارتداء أحذية دكتور مارتنز، وتم تدمير ترميز المثليات للأحذية”. هذه التغيرات تتحدى مفهوم “نظام الترميز بالأوشحة” (hanky code)، وهو نظام طوره الكويريون/ات حول العالم للتلميح إلى هوياتهم/ن بسرية بين بعضهم البعض دون التعرض للخطر.

العمل الفني: عمر خليف

تساءلت عما إذا كانت لدينا مثل هذه الممارسات في مجتمعاتنا في تونس، حيث لا تزال الكويرية مجرمة.5

عندما تحدثت مع “ز” عبر الهاتف، قالت إن التلميح بالشكل الكويري، يتطلب وعيا معينا. “ليس الجميع على دراية بمن هم/ن كوير أو كيف يلبس(و)ن. عندما أقوم بالتلميح في تونس، أشعر أن الأمر موجه إلى الكوير الآخرين/الأخريات – إذا كان التلميح غير مباشرة. ليس الجميع على دراية برموز الكوير أو ثقافة البوب الكويرية”. “ز” – التي تلبس بطريقة تجذب الكويرين/ات دون إثارة قلق كارهيها في تونس – أضافت: “أنا محظوظة لأن لدي أسلوبا غير مقلق. أحب ارتداء الأشياء الفضفاضة، وعلاقة المفاتيح على الجينز (كارابينر) والقلائد والخواتم أيضا دون الكثير من المكياج عندما أريد أن أكون أكثر تلميحا لكويريتي”.

الإشارات أو التلميحات الكويرية المتفق عليها عالميا (مثل البنطلونات المطوية، حقائب اليد القماشية ‘توت باج’، الشعر البلاتيني) أصبحت تلعب دورا أساسيا للتعرف على الأفراد داخل المجتمع الكويري في تونس، جزئيا لأن العديد من السكان المحليين/ات ليسوا/لسن على دراية بتعقيدات الثقافة الكويرية بسبب فلترة الخوارزميات لمحتويات حسابات الأشخاص حسب اهتماتهم المختلفة.

رددت “س”، قائلة إن الأمر كله يتعلق بإتقان غير المباشرة. تقدم نفسها بطريقة تتحدى بعض التوقعات المغايرة المرتبطة بالنساء اللواتي يظهرن بمظهر “أنثوي”، على سبيل المثال، بعدم إزالة شعر ذراعيها أو ساقيها واختيار الوشوم والأقراط الجسدية. هذه الخيارات، في الغالب، قد لا تثير الكثير من الشكوك أو تجذب انتباه الشرطة. يصبح التلميح إذن، هذا الخط الرفيع حيث توازنين مقدار الكويرية التي يمكن إظهارها دون جذب شكوك العامة.

بالنسبة للبعض، لا يتعلق التلميح إلى الكويرية بالمظهر في المقام الأول، بل بالنظرة والتواصل مع الآخرين والأخريات. أبرزت “ق” الشعور بعدم الارتياح المرتبط بالمحادثات حول الشعر والملابس كوسيلة للإشارة، قائلة إن استمرارية البوتش-فيم (أو ما تعرف بالبوية الأنثوية)، تفرض تصنيفات مقيدة.

عن التلميح في الأماكن العامة
بناء على ذلك، سألت عن أماكن يشعر فيها الناس بالراحة عند التلميح إلى كويريتهن. كانت الإجابة الغالبة تشير إلى الحانات والمقاهي التي يرتادونها. تحدثت “زي” عن نوادي ليلية “صديقة للكوير”، غير “فاخرة أو مرفهة” أكثر من اللازم، وأن الكثير من المساحات الفنية، والعروض الأندرجراوند والمعارض تعتبر بشكل عام آمنة. كما اتفقت كل من “س” و”ك”، على أن الأمر يتعلق بالجمهور المتواجد أكثر من المكان نفسه، في جعل التلميح الكويري أمرا آمنا. كما قالتا أنهما تميلان إلى الأماكن التي يرتادها أفراد كوير آخرون وأخريات، كما أن سياسات وسلوك المالكين/ات تلعب دورا أساسيا في هذا.

هناك شيء جميل في مجتمعاتنا الهامشية في تونس، وهو أن جميع الأقليات تتحد. إنه نوع من التقاطع اللاواعي للنضالات: الميتالهيدز (محبي موسيقى الميتل)، الكويريون/ات، الملحدون/ات، شاربو وشاربات البيرة – كلنا نجتمع في هذا المكان لنكون أنفسنا.

ذكرت “إس” عددا من الحانات التي تشعر فيها بأنها أكثر أمانا لتكون على طبيعتها، حيث يوجد حضور ملحوظ لأفراد كوير يلمحـ(و)ن بشكل علني، خصوصا من خلال تصنيفات جمالية معروفة مثل المسترجلة “البتش” أو غيرها. في هذه الحانات، لا تتردد الشريكات في إظهار العواطف بشكل أكثر انفتاحا. كما تقول أنها تعبر عن مشاعرها بأسلوب مستتر عندما تكون مع حبيبتها في الشارع، مما يقلل من “المغازلة، لأنها تحدث خلف أبواب مغلقة”. ضحكت، متذكرة اندفاع الأدرينالين في ليلة دافئة في يوليو، عندما قبلت فتاة في إحدى الحانات التي ذكرتها “س”.

معظم النساء اللواتي تحدثت معهن ذكرن مسألة الطبقة الاجتماعية، بغض النظر عن خلفياتهن. نشأت في بيئة من الطبقة الوسطى العليا، ولم أشعر قط أن كويريتي كانت إشكالية، طالما كنت ألمح بشكل “مخفف” أو لم أتقمص تماما الصورة النمطية للكويرية. ولكن بشكل عام، الثروات تحمي الناس من العديد من المخاطر التي يواجهها أفراد الكوير من الطبقات الدنيا. كلما شعرت بأمان أكثر، كنت أكثر استعدادا للتلميح للانخراط في محادثات ذات مخاطرة أكبر.

قد يكون التلميح للكويرية أيضا ظاهرة مدنية. “المساحات الآمنة” عرضية وسريعة الزوال بشكل ما. المدينة دائما ما تتغير؛ التصاريح ورخص الحانات لا تجدد دائما، خاصة عندما تحصل السلطات على معلومات تفيد أن هذه الأماكن يرتادها حشود كويرية. يبدو الأمر كما لو أن الكويريين/ات يجب أن يكونوا/يكن رحل في تونس.

العمل الفني: عمر خليف

في أوروبا، غالبا ما تكون هناك توترات حول من “يمكن” أو “يجب” أن يرتاد المساحات الخاصة بالمثليين/ات، مما يعكس التمييزات بين الأفراد المثلية.6 وعلى النقيض من ذلك، شاركت العديد من المستجيبات كيف أن المجتمع التونسي مرحب للغاية، وأنهن شعرن أن هذه الأماكن أقل إقصاء. قالت “ق”: “في الواقع، لم أفكر أبدا في هذا السؤال ولم أشعر بعدم الأمان في تونس. كانت الكويرية بين النساء دائما أمرا طبيعيا في ذهني، وفي ذهن بيئتي… هناك شيء جميل في مجتمعاتنا الهامشية في تونس، وهو أن جميع الأقليات تتحد. إنه نوع من التقاطع اللاواعي للنضالات: الميتالهيدز (محبي موسيقى الميتل)، الكويريون/ات، الملحدون/ات، شاربو وشاربات البيرة – كلنا نجتمع في هذا المكان لنكون أنفسنا”.

حول التلميح والعلاقة بالمكان
هل هناك شيء في ثقافتنا أو مظهرنا أو طرق تحريك أجسادنا هو بطبيعته كويري، أو حتى إيروتيكي؟ في الصيف الماضي، بينما كنا نشرب الليموناضة في بار على شاطئ البحر ونتصبب عرقا، قال يونس: “هناك شيء إيروتيكي هنا، في الهواء. أشعر به في جلدي. أنا أكثر كويرية هنا”. “ربما بسبب الحرارة”، أجبته بشكل نصف ساخر.

قد ينظر إلى الكويرية أحيانا على أنها مناقضة لهوياتنا كشمال أفريقيين/ات أو مسلمين/ات. ولكن عند النظر إلى لقطات ثقافة البوب العربية – سواء كانت فيديوهات موسيقية أو أفلام قديمة – فإن بعض المحتوى يذكرنا بالجماليات “الكامبية”، إن لم تكن الكويرية. سواء كان ذلك مقصودا أم لا، هذه التمثيلات كانت موجودة منذ زمن طويل قبل الفانيلّات أو فيديوهات الملابس الكويرية المنتشرة على تيك توك.

في رسالة صوتية، قالت لي “س” إنها تشعر بأنها تعتبر بيضاء أو سائحة. “أشعر أن الأشخاص البيض يسمح لهم/ن بأن يكونوا/يكن غريبين/غريبات، سواء في مظهرهم/ن أو سلوكهم/ن أو طريقة ملابسهم/ن المختلفة عن الثقافة المحلية”. “س” ليست من تونس أصلا، وقالت إنها لا تواجه نظرات سلبية أثناء تنقلها في الشوارع، ولا تتحمل عبء التوقعات الدينية. ومع ذلك، تتردد في عرض كويريتها أو حمل “رموز مثلية” عالمية (أممية) مثل ألوان القوس قزح (الرينبو). حرصها ليس خاصا بتونس، بل ينبع من إرادتها بألا تعرف بتمثيلات المثليين/ات النمطية التي تبناها الليبراليون/ات منهم حول العالم.

هذا أيضا يلمح إلى علاقة الأفراد الكوير في تونس بالظهور والإفصاح عن الهوية الكويرية “الخروج من الخزانة”، وهو ما ليس دائما عمليا أو مرغوبا فيه. كون الشخص الكوير في العلن قد يقارن بالمعايير الأوروبية، وقد لا يتناغم أيضا مع السياقات المحلية أو الإقليمية. إحدى المستجيبات عبرت أنها، من جهة، لا تشعر أن هويتها الكويرية تأثرت بالثقافة التونسية لأنها “نشأت على الإنترنت” و”تعرضت لكل أنواع التعبير الكويري منذ صغرها”. ولكن، من جهة أخرى، تشعر أن ذلك أثر على مفهومها للأمان، ونتيجة لذلك، على كيفية تعبيرها عن نفسها. لذا، ليس بالضرورة أن تؤثر الثقافة على اختياراتنا في كيفية التلميح، بل الروابط مع أو الوصول إلى الثقافة الكويرية العالمية (الأممية) الرئيسية.

العمل الفني: عمر خليف

السؤال حول كيفية ارتباطنا، كنساء من الجنوب العالمي، مع هذه الجماليات الكويرية المنتشرة هو سؤال مثير للاهتمام. هل نريد أن نبدو مثل الكويريين/ات الآخرين/ات؟ هل نتعامل مع هذه الجماليات بازدراء بمجرد أن يتم استيعابها من قبل الكويريين/ات العالميين/ات (الأمميين)، الذين/اللواتي نختلف عنهم/ن كثيرا؟ أم أن الأمر بين الاثنين؟

التلميح في مدينة مثل تونس عملية ديناميكية. مرتبطة بتغيرات المدينة، وإغلاق وفتح الحانات، وانتقال الكويريين/ات من مكان لآخر، ومع تحول التلميح إلى مسألة تتعلق بالتوازن بين الرغبة في التعرف والمخاطرة (بالتعرض للتمييز أو العنف أو الرفض الاجتماعي)، نجد طرقا لتدبر هذه التحديات خارج حدود مجتمعنا.

  1. رمز “فأس مزدوجة الرأس”، ويعود أصله إلى الحضارة المينوية القديمة. في العصر الحديث، أصبح هذا الرمز مرتبطا بالحركة النسوية والمجتمع الكويري، خاصة مجتمع الكويريات. يستخدم كرمز للقوة، الاستقلال، والمساواة بين الجنسين.
  2. وهو مصطلح يستخدم للإشارة إلى مثلية الجنس المتمظهرة كمذكر – يستخدم في كثير من الأحيان للإزدراء. مع ذلك، هناك حالات تم إعتماده بتأييده من قبل المثليات كمصطلح إيجابي للتعريف الذاتي. (المشروع العراقي للترجمة)
  3. تتحدر كلمة “كامب” من الفرنسية se camper أي “يتكلف” أو “يمثل” أو “يقف في وضعية تمثيلية” وتعود جذور نشأتها إلى قصر فرساي في القرن السابع عشر.
  4. رينا لويس، المظهر الجيد: النظرة المثلية النسائية وتصوير الأزياء، مراجعة نسوية، العدد ٥٥ (١٩٩٧): ٩٢–١٠٩. Reina Lewis, “Looking Good: The Lesbian Gaze and Fashion Imagery,” Feminist Review, no. 55 (1997): 92–109. http://www.jstor.org/stable/1395789
  5. رامي خويلي ودانيال ليفين-سباوند، “المادة ٣٢٠”، ٢٠١٩ https://article230.com/en/article-320-eng/.
  6. تايلر بالدور، لا فتيات مسموح لهن؟: الحدود المتغيرة بين الرجال المثليين والنساء المغايرة في المساحة العامة المثلية، إثنوغرافيا ٢٠ العدد ٤ (٢٠١٩): ٤١٩–٤٢. Tyler Baldor, “No Girls Allowed?: Fluctuating Boundaries between Gay Men and Straight Women in Gay Public Space,” Ethnography 20, no. 4 (2019): 419–42. https://www.jstor.org/stable/26785600.