بقلم: سيرين الجرماني
ترجمة: هبة مصطفى
العمل الفني: هبة طارق
هذا المقال من عدد الذبذبات
لا يبدو أن هناك ما يعيق مرتادي الحفلات عن السهر حتى الفجر، حتى في النوادي ذات الشهرة العالمية التي تفرض رسوماً باهظة، لا الحروب ولا التفجيرات ولا الانهيار الاجتماعي الاقتصادي؛ فمن بارات الجاز الهادئة إلى الصالات العصرية النابضة بالموسيقى الكهربائية، تلبي الحياة الليلية في بيروت مجموعة واسعة من الأذواق لمن لا يزالون قادرين على تحمل تكاليف التجربة.
تتردد أصداء مشهد الحياة الليلية الكويرية المتناثر خلف الجدران الخرسانية للأحياء الصناعية وحانات الأزقة الخلفية عبر جنبات أماكن التجمعات التي تزدان بها بيروت، وتختلف هذه الحياة الليلية أيّما اختلاف عن مشاهد الموسيقى البديلة والمتمردة التي تعرفها مدن مثل برلين وباريس؛ فأغاني البوب العربية لفنانات محبوبات مثل هيفاء وهبي ونوال الزغبي تحتل الصدارة على حساب موسيقى “التكنو” و”البانك”، وتتوّج الليلة في كثير من الأحيان بـ “ريمكسات” مبهجة لأغانٍ كلاسيكية لمطربين ومطربات من أم كلثوم إلى صباح فخري، وهو ما يتناقض بشدة مع الأجواء المتفرنجة في بقية المدينة.
يصنع مجتمع الكويريين/ات مساحة بديلة لنفسه في العاصمة اللبنانية، حيث يتم التباهي بفخر بمظاهر الفَرْنجة باعتبارها رمزاً للنخبوية، ومن خلال موسيقى البوب العربية، يؤكد الكويريون/ات العرب مكانتهم المستحقة والمشروعة في مجتمع طالما همّشهم/ن، والرقص على هذه الأنغام هو بمثابة أداة قوية لتحدي الصور النمطية المجتمعية المحيطة بالطبقة والجندر والجنسانية، وفي الوقت ذاته تأكيد هوية عربية غير خجولة أو وجلة.
باريس الشرق الأوسط؟
برزت بيروت، التي يُحتفى بها على أنها “مدينة الحفلات” و”عاصمة الحياة الليلية” في الشرق الأوسط، كمركز للترفيه والحياة الليلية قبل أن تصبح ملعباً لطُلاب المتعة من الأثرياء في الستينيات بزمن طويل،1 بل وقبل ذلك؛ ففي أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كان الرحّالة يصفون بيروت بالفعل بأنها “باريس الشرق”،2 وسرعان ما تحولت بيروت من كونها مركزاً تجارياً مزدهراً إلى مدينة ساحلية مزدهرة؛ حيث اكتسبت طبقتها التجارية الغنية ذائقةً للثقافة الأوروبية والأزياء والفن وبنت قصوراً جديدة فخمة متأثرةً بالهندسة المعمارية الأوروبية، وفنادق، وغرف بلياردو، ومقاه ذات تصميمات داخلية أنيقة،3 وكان للطابع العالمي للمدينة وثقافتها المتسامحة نسبياً، بفضل نشاطها التجاري، سحره الجذاب للزوار والسياح على حد سواء؛ فالتجارة والتبادل التجاري يتطلبان استعداداً للاختلاط والتفاعل مع “جميع أنواع الناس”.4
العمل الفني: هبة طارق
كان الرحّالة، لا سيما من يصلون إلى بيروت بعد جولة في مدن أخرى في سوريا وفلسطين، ينبهرون بشخصية بيروت “الأوروبية” و”العالمية”، وقد أرّخوا أسلوب حياة المدينة الفخم والشعور بالحرية غير المقيدة؛3 فعلى سبيل المثال، أشاد الرحّالة البريطاني فريدريك نيل عام 1842 بردهات الاستراحة في الحانات الأنيقة واللوكاندات (الفنادق) ذات الطراز الإيطالي، وتحدث بأسلوب فكاهي عن حفلات الرقص الرُباعي (الكوادريل) المسائية، والتجمعات الموسيقية، والحفلات الراقصة التي “كان يُدعى إليها النخبة من كل دين ومذهب”، وحيث كانت تُؤدى أحدث رقصات “البولكا” و”الفالس” ببراعة.5
تصور الخيال الاستشراقي لبنان من منظور أوروبي على أنه “جنة الحرية” وسط بيئة عربية “همجية”،6 وجعلته الليبرالية الثقافية والاقتصادية وجهة رئيسية للأعمال المصرفية والسياحة،3 ومع تزايد أوجه عدم المساواة، تحولت هذه الهوية إلى “باريس الشرق” خلال عصر الستينيات الذهبي الذي جذب المشاهير العالميين، وأفراد العائلات المالكة، والنُخُب إلى الرقص في نادي “أقبية الملك”7 الليلي والانغماس في أنشطة أكثر خلاعة في كباريه “كريزي هورس”8 الشهير في شارع فينيسيا، وقد وضعت الحرب الأهلية نهاية مفاجئة لحالة السُكر هذه عام 1975.
هوية استهلاكية في مجتمع مصاب بالصدمة
تمكّن اللبنانيون الذين اُشتهروا بالسهر والاحتفال خلال الحرب الأهلية من الحفاظ على سمعتهم/ن باعتبارهم/ن محتفلين لا يشغل بالهم/ن هم حتى عام 2020، وعندما تسببت الأحداث المضطربة التي شهدها ذلك العام – الانهيار المالي، وجائحة كوفيد-19، وانفجار مرفأ بيروت المدمر – في صدمات سرت عبر نسيج المجتمع ونفسيته، بدا الأمر وكأنه سيكون الضربة القاضية للحياة الليلية في لبنان؛ فقد تعكر المزاج الوطني، وأصبحت الحفلات أقل تواتراً وأكثر سرية، وأصبح الإفراط في البذخ والترف موضع استهجان.
على الرغم من ذلك وفي تحول عبثي للأحداث، يبدو أن “ريما عادت إلى عادتها القديمة” في صيف عام 2023؛ فاكتظت نوادي الشواطئ الخاصة وتوافد رواد الحفلات على المطاعم، والحانات، والنوادي الليلية الراقية، وارتدى المحتفلون الليليون الأحذية ذات الكعب العالي وحملوا/ن الحقائب باهظة الثمن، متنافسين/ات على الدخول إلى النوادي الانتقائية، حيث القدرة على تحمل أسعارها المرتفعة ليست ضماناً للدخول، والاحتفال على الإيقاعات الإلكترونية التي تصم الآذان، وتنافس سائقي خدمة إيقاف السيارات على صف السيارات الفارهة، وصرخات الإحباط بسبب عدم التواجد في قائمة المدعوين/ات أو المسموح لهم/ن بالدخول كدليل على روح الشعب اللبناني التي لا تُقهر، وعاد “الدي جاي” المشهورون/ات عالمياً بحماس إلى نوادي بيروت، وأعاد نادي “سكاي بار”9 الليلي المعروف عالمياً فتح أبوابه وقنينات الشامبانيا “دوم برينيون”10 التي يبلغ سعر الواحدة منها 400 دولار أمريكي لزبائنه المتأنقين/ات والمتحمسين/ات.11
يتوقع المرء أن يختفي الدافع لتكديس الثروة المادية والتباهي بها في معظم المجتمعات التي تصارع الشك، أو عدم الاستقرار الاقتصادي، أو الاضطرابات السياسية،3 ومع ذلك، كرر لبنان صورته التي كان عليها بعد الحرب؛ ونمت ذائقة البذخ مرة أخرى.
أصبح الشعب اللبناني معتاداً على العنف، خلال الحرب، ونمت اللامبالاة الأخلاقية تجاه العنف من خلال وضع الفئات المستهدفة بالعنف،3 مثل المتظاهرين/ات، أو اللاجئين/ات، أو الكويريين/ات، في خانة “الآخر”، وفي مواجهة الاستنزاف، أعاد الناس تأكيد التضامن الطائفي3 والتمسوا العزاء في استهلاك مجموعة متغيرة دائماً من السلع المادية، والتجارب، والمنتجات الثقافية، وأصبح الولع بالاستعراض المبالغ فيه للثروة سمة مميزة للهوية الوطنية على نحو يوفر درعاً حامياً من ضعف الصمود الجماعي الهش تحت وطأة التهديدات المستمرة.
إنشاء مساحات كويرية ورفض سرديات الطبقية
ظهر مشهد كويري بديل بعد الحرب الأهلية بالتوازي مع الحياة الليلية السائدة في بيروت؛ فكان نادي “أسيد”،12 وهو نادي شهير للرقص صديق لأفراد مجتمع الميم عين+ تأسس عام 1998، رائداً في إنشاء مساحة لأفراد مجتمع الكويريين/ات للرقص على إيقاعات أغاني سميرة سعيد وأغنية “بتونس بيك” للمطربة الجزائرية وردة، وشهدت المدينة طفرة في المساحات الصديقة للكويريين/ات خلال فترة إعادة الإعمار، بما في ذلك النوادي الليلية الشهيرة مثل “أورانج ميكانيك” و”آر أو إتش” و”مينت” وأماكن الخروج الأكثر استرخاءً مثل حانة “وولف” ومقهى “الشيخ منقوش”.
على الرغم من أن الإغلاق القسري لنادي “أسيد”12 عام 2010 كان بمثابة بداية لسلسلة من الأحداث التي من شأنها أن تقلل بدرجة كبيرة من المساحات الصديقة للكويريين/ات، فلا يزال ما تبقى منها مدعوماً بالموسيقى والثقافة العربية الشعبية، وهذه المساحات البديلة شاملة للجميع وأسعارها معقولة نسبياً، مما يقوض الخرافة الأساسية في الحياة الليلية في بيروت باعتبارها حكراً على النُخُب المتفرنجة، ومن خلال هذه الموسيقى، يستطيع اللبنانيون/ت الكويريون/ات إنشاء مساحة لأنفسهم/ن واستعادة مكانهم/ن في المجتمع الذي أسكتهم/ن لفترة طويلة؛13 فالاستماع إلى موسيقى البوب العربية والرقص على أنغامها يقوض الخطاب السائد الذي يصور مجتمعات الكويريين/ات على أنها نتاج القيم “المتفرنجة” لتبرير العنف ضدهم/ن، وتصبح كل دقة طبلة في أغنية “شيك شاك شوك” أو العُرب الصوتية في أغنية “ماندم عليك” وسيلة يؤكد من خلالها مجتمع الكويريين/ات المهمشين/ات والمضطهدين/ات بصورة متزايدة اندماجه المشروع في مجتمع يتشارك معه تعبيرات مماثلة عن الحب والحسرة.
العمل الفني: هبة طارق
لا ينبغي، مع ذلك، إساءة فهم هذه الرغبة في الاندماج على أنها رغبة في الامتثال للمعايير الأخلاقية القمعية المتعلقة بالجندر، والجنسانية، والذكورة التي استوردتها وفرضتها السيطرة الاستعمارية؛ فمن خلال الرقص على الموسيقى العربية الشعبية، يقاوم مجتمع الكويريين/ات الأعراف الدخيلة، والمتحفظة، وغير المتسامحة14 التي تعتبر ممارسة الرجال للرقص الشرقي تهديداً للأخلاق الفيكتورية الغربية؛15 حيث يحيي هذا الرقص أجزاءً من تراثهم قبل الاستعمار عندما كانت الشهوانية المثلية جزءًا لا يتجزأ من الثقافة والفن “العربيين”.
شهدت بيروت تصاعداً مقلقاً في العنف، وسط إجراءات التقشف المتزايدة، يتجلى في الهجمات الأخيرة المعادية للمثليين/ات16 على حانة صديقة للمثليين/ات والمتظاهرين/ات في “مسيرة الحرية”،17 مما أدى إلى سلسلة من الإلغاءات للفعاليات الصديقة للمثليين/ات طوال صيف عام 2023، ودُفع أفراد مجتمع الميم عين+، لا سيما الأكثر ضعفاً، على نحو متزايد إلى مساحات منعزلة في ضواحي المدينة، في ظل تاريخ مستمر من التهميش، وتتحول هذه المساحات إلى بيئات محفوفة بالمخاطر وعنيفة بازدياد بعيداً عن أعين الناس.
تمثل هذه الزيادة في معاداة المثليين/ات أحد أعراض قلق أكبر يتمثل في العنف المتزايد واتساع رقعة الفئات المستهدفة به في مدينة تعاني من أزمة هوية ناجمة عن الانهيار الاقتصادي، ويتطلب النضال من أجل الحفاظ على تاريخ بيروت الحافل بالتنوع والحريات، واستعادة المساحات العامة محل النزاع والصدام في المدينة، عملاً جماعياً يتجاوز مجتمع الكويريين/ات وحده، لا سيما وأن الأحداث الأخيرة تعكس بصورة مقلقة النغمات الطائفية لحرب أهلية لم تُحل بعد.
- سمير خلف، لبنان التائه: من ساحة المعركة إلى ساحة اللعب (دار الساقي، 2012).
- قسطنطين فرانسوا فولني، رحلة إلى مصر وسوريا، عبر السنوات 1783، و1784، و1785 (دار فولاند وديسين، 1787).
- سمير خلف.
- فواز الطرابلسي، تاريخ لبنان الحديث (بلوتو برس، 2012).
- فريدريك آرثر نيل، ثمانية أعوام في سوريا وفلسطين وآسيا الصغرى المجلد 1: من عام 1842 إلى 1850 (1851) (دار كيسنغر للنشر، 2008).
- قسطنطين فرانسوا فولني.
- Les Caves Du Roy
- Crazy Horse
- Sky bar
- Dom Pérignon
- ريا الجلبي، “”من الرائع الحصول على المال مرة أخرى”: الأثرياء اللبنانيون يخرجون من الأزمة”، فاينانشال تايمز.
- Acid
- جون فيسك، “التسوق من أجل المتعة: قوة المجمعات التجارية والمقاومة” في دليل المجتمع الاستهلاكي، تحرير جولييت شور ودوغلاس بي. هولت (نيو برس، 2000)، 306-328.
- جوزيف مسعد، اشتهاء العرب (دار نشر جامعة شيكاغو، 2008).
- ألفونس دو لامارتين، “ذكريات وانطباعات وأفكار ومشاهد طبيعية في رحلة إلى الشرق (1832 و1833)” في الأعمال الكاملة، المجلد 7 (باريس: إصدارات المؤلف، 1861) http://gallica.bnf.fr/ark:/12148/bpt6k210086n/f460.item.
- Lebanon drag show derailed by crowd of angry conservative men
- Lebanon: Investigate assault on Freedom March protesters