كلمات: سيث زاك
العمل الفني: عود نصر
هذا المقال من عدد الذبذبات

أصوات متداخلة من بعيد، تعيدني إلى لحظة ما في ذاكرتي، ذكرى تجعل تلك  الأصوات المتداخلة شرارة تفتح بوابة تعود بي سبع سنوات إلى الوراء، عندما سمعت بكاء وصراخ العشرات من حولي وأنا أحاول أن أستوعب ما حصل! كل الأصوات بعد أن أخبرني صديقي بالخبر أصبحت غير مفهومة، أرى شفاهاً تتحرك ولا أدري ماذا يقولون، أتحرك بناء على توجيهات وأوامر صوتية يفهمها دماغي لكنني لا أستوعبها، خبر وفاة عبد القادر شريكي وحب حياتي، وأصوات أهله وأصدقائه يبكون من حولي وأنا لا أسمع سوى ضجة غريبة، تشعرني أنّني في مكان بعيد جداً، أسمع بكاء وصراخاً وعويلاً دون أدري ما الذي حصل!

هذه الذكرى تعود إلي كلما سمعت أصواتاً متداخلة بعيدة، يبدأ الأدرينالين بالارتفاع وتزداد ضربات قلبي وأبدأ بتخيل الأسوأ، وكأنني سأسمع خبراً مفجعاً، ويبدأ الخوف يحوم في صدري، كأنني أنتظر النهاية.

أتناول في هذا المقال تطور علاقتنا بالأصوات، مع التركيز على دورها في تشكيل هوياتنا وتجاربنا. من خلال الحكايات الشخصية والقصص المشتركة، وأحاول أن أسلط الضوء على القوة التحويلية للصوت في رحلة الكويريين  من مصدر للخوف والعار إلى منارة للفردية والقوة، حيث تحمل الأصوات أهمية عميقة في حياتنا، وغالبًا ما تكون بمثابة قناة للذكريات والعواطف. أحاول أن أسلط الضوء على كيفية تشابك الأصوات، مع ذكريات وهويات الأفراد الكويريين، وكيف أن الصوت يمكن أن يثير الألم والحنين ولكنه يقدم أيضًا العزاء وطريقًا للشفاء.

كيف يتحول صوت من تحب إلى صوت تكرهه؟
في محادثات مع أفراد من مجتمع المثليين، يتكرر الكلام عن العلاقة بين الصوت والشعور. ذكر إيفان، وهو صديق مثلي الجنس يبلغ من العمر 28 عامًا، كيف يمكن لصوت أحد أفراد أسرته أن يتحول من مصدر للراحة إلى تذكير بالألم، مما يعكس سيولة ارتباطاتنا العاطفية بالصوت. الأصوات التي نعتز بها ذات يوم يمكن أن تصبح الأصوات التي نرغب في الهروب منها يوما ما.

بالنسبة لإيفان صوت الأذان كان يعيد له ذكريات مؤلمة، حيث كان وعيه بجنسانيته في نفس توقيت إجباره على التديّن في بيئة محافظة، كان والده هو الجلّاد فيها

كيف يتحول صوت من تحب إلى صوت تكرهه؟ في حديثي مع إيفان، عندما كنا نتحدّث عن أصوات من نحب وكيف تؤثّر علينا كأشخاص كويريين، أخبرني أنّ صوت حبيبه السابق كان أكثر ما يحبه في الحياة، إلّا أنّه عندما تدهورت علاقتهم وقبيل الانفصال، تحوّل صوت حبيبه السابق لأكره الأصوات إلى قلبه ولا يطيق سماعه، ومع ذلك ما يزال محتفظاً بتسجيلات صوتية لحبيبه على هاتفه يسمعها كلّ فترة عندما يضربه الحنين.

تجربة إيفان مع الصوت هي مثال مؤثّر، يعيده حفيف أوراق الشجر وأمواج المحيط إلى ذكرى عزيزة بالقرب من بحيرة تصطف على جانبيها الأشجار. أصبح هذا الصوت يرمز إلى لحظة تحقيق الذات والرفقة المتأصلة بعمق في ذاكرته. أخبرني أنّه يعيد له ذكرى لا يمكن أن ينساها في حياته، حيث التقى بأوّل شخص مثلي في حياته عندما كان في الخامسة عشر من عمره، على شطّ بحيرة تحفّها الأشجار، في ذاك اللقاء علم إيفان أنّه ليس وحده، أنّه ليس المثلي الوحيد في هذا الكون الشاسع، وليس شاذاً عن الطبيعة، فارتبطت تلك الذكرى بذاك الصوت حتّى بعد مرور أكثر من عقد على ذاك اللقاء.

علاقة الصوت بالحنين علاقة غريبة، كلّ منهما يؤثر بالآخر ويتأثر به، فالكثير من الأصوات تُشعل في قلوبنا الحنين وتوقظ فينا ذكريات عديدة قضيناها مع من نحب أو في المكان الذي نحب. بالنسبة لإيفان صوت الأذان كان يعيد له ذكريات مؤلمة، حيث كان وعيه بجنسانيته في نفس توقيت إجباره على التديّن في بيئة محافظة، كان والده هو الجلّاد فيها، كان إيفان يعاني من عدم تقبله لميوله ولنفسه، وصوت الأذان كان تذكيراً له بسوء حاله! أخبرني أنّه عندما انتقل من المدينة إلى الطبيعة واندمج بأصوات الطبيعة أصبح أكثر تصالحاً مع نفسه وجنسانيته وذكرياته.

العمل الفني: عود نصر

المغنى حياة الروح
وبالرغم من العلاقة السيئة التي جمعت ماريا – وهي فتاة عابرة جنسيا – مع الصوت، بسبب تردد صدى صوت أخوتها في ذاكرتها وهم ينادونها بأقبح الصفات والشتائم وصراخهم عليها بسبب هويتها الجندرية، إلّا أنّها ما تزال تشعر بالنشوة عندما تستمع لصوت أم كلثوم، فهي التي “تسحبها من الظلمة إلى النور” بحسب تعبيرها، حيث ترى ماريا أنّ الموسيقى هي ما يجعل هذا العالم قابلاً للتحمّل رغم كلّ الضجيج المحيط به.

كونها أحد أعذب أشكال الصوت، وأنقاها، وأكثرها تنوعاً واختلافاً، تحتل الموسيقى مكانة خاصة في قلوب الكثيرين، خاصة داخل مجتمع الكويري، وغالبًا ما تصبح مصدرًا للعزاء والتعبير. فعلى سبيل المثال، تحولت ورد، وهي مثلية من سوريا تبلغ من العمر 26 عاماً، إلى الموسيقى كملجأ من الندوب التي خلفتها علاقة عاطفية مؤلمة لها. ووفرت الألحان والإيقاعات مساحة للشفاء في حياتها، ما سمح لها بمعالجة الصدمة التي مرت بها وتجاوزها.

“لم أكن قد تخطيت علاقتي السامة بحبيبتي السابقة، كان صوتها -وهي تصرخ علي عبر الهاتف- يسكن ذاكرتي لفترة طويلة بعد انتهاء العلاقة، لجأت للعلاج الوحيد الذي كنت أعرفه، ماجد المهندس، أصالة، ياس خضر، وآخرون من المطربين والمطربات التي تأخذني أصواتهم إلى الجنة، جرعة كبيرة من هذه الأغاني كانت تنسيني أصوات كل الصراخ والضجيج في ذاكرتي، وتسحبني نحو السكينة”.

كانت ورد قد اعتادت الهرب إلى الموسيقى من صراخ وبكاء أمها بعد أن اكتشفت مثليتها، خصوصا مع عدم قدرتها على الخروج من المنزل لأنها فتاة في دمشق لأبوين محافظين، وأخ عنيف. “كنت أهرب بروحي خارج جسدي وخارج المكان، أضع سماعتي في أذني وأجلس لساعات، من أغنية لأغنية، من لحن للحن، من الشجن للحب، ومن العتاب للغضب، ومن الفرح للحزن، أضيع في تلك الأغاني وكأن كل مطرب يغني لي وحدي، فلا أسمع صوت أمي التي توبخني وتأمرني بالصلاة، ولا أسمع صوت أخي الذي يأمرني بالعمل”.

سليم 18 سنة ثنائي الميول الجنسية طالب جامعي من سوريا، تحدّث لنا عن حبه الكبير للمغنية الأميريكية الشهيرة “Taylor Swift” حيث يرى سليم أنّها تتحدث إليه عبر أغانيها في كلّ مرة يكون فيها محتاراً أو كئيباً أو متعباً من الحياة، الحياة التي يُجبر فيها أن يختبئ خوفاً من أعين الناس وألسنتهم، يستمع إليها معظم الوقت ولا يملّ من أغانيها، حيث يرى أن تايلور غنّت لكلّ مناسبة ولكلّ شعور أغنية.

“كلماتها بسيطة، مفهومة، واضحة وشاعرية، ألحانها لطيفة، تختارها بعناية كبلسم يداوي الجروح، جروح القلب بالتأكيد، أنتظر كل أغنية لها بشغف، وأتحدث لكل أصدقائي عنها بهوس، هذه النجمة أعادت بصوتها الأمل إلى قلبي” يقول سليم.

في حين يجد إيفان علاقة فريدة مع الموسيقى الكردية، وخاصة آلة “البزق”، وهي آلة شرقية. صوتها الرقيق يرفعه فوق اهتماماته الدنيوية، مما يوفر إحساسًا بالتسامي والسلام. هذا الارتباط الموسيقي يتجاوز مجرد الاستمتاع. إنها رحلة علاجية، ووسيلة لتجاوز الصعوبات وإيجاد الراحة.

بالنسبة لي، الكثير من الأصوات التي ملأت حياتي أتعبت روحي، لكني وجدت كما وجد الآخرون سلوى في الموسيقى والأغاني، كما وجدت أن أصوات من أحب من أهلي وأصدقائي، هي الأقرب إلى قلبي، أسمعها مراراً وتكراراً، عندما أكون في ضيق أتصل بأمي، أحادثها ولو لدقائق، أو أسمع لتسجيلاتها الصوتية وهي تدعو لي بكلماتها البسيطة الحنونة والمليئة بالحب، أحفظ ضحكتها في ذاكرتي، أسترجعها كلما أردت أن أبتسم. أتصلُ بأبي عندما أكون ضائعاً ليعيدني بصوته الجهور إلى الطمأنينة والهدوء، وربما ألقي نكتة على مسمعه أو أمازحه ليسعدني لبضحكته الخجولة فأصبح أسعد إنسان على وجه الأرض.