بقلم: إيمان عمارة
العمل الفني: لينا
هذا المقال من عدد عقدة الواوا
أرقص لغواية الرجال… أدرك تماما كيف ينظرون لي ولجسدي حينما أتمايل أمامهم بدلال وإثارة. أدرك تماما أنهم، في هذه اللحظات الحميمية، يتخيلون جسدي بين أيديهم كي يعبثوا بانحناءاته، لم علي أن أكذب؟ هذه هي الحقيقة التي اختبرتها مرات عدة، ولا أجد في ذلك أية غضاضة أو سبب يدفعني للخجل. منذ أن بدأت فكرة الكتابة عن الرقص الشرقي تحديدا، تطل وتختبئ وسط أفكار أخرى، قرأت هنا وهناك شاهدت ومقاطع وتعليقات شعبوية ونسوية وقومية ومحافظة وفنية وجمالية وإيروتيكية، تحلّل وتقارن وتحرّم وتقيّم وتهلّل وتَقرف. كانت دائما هناك نقطة متكرّرة لدى المحبين والمعجبين والمدافعين يستميتون في إثباتها: الرقص الشرقي فن ليس مرادفا لإثارة الغرائز مثلما يشاع عنه أو مثلما تمارسه بعض الراقصات “الهابطات”، وتتجلى هذه الاستماتة حتى في كون الاحتفاء بتحية كاريوكا لم يجد له طريقا للعلن إلّا بعد أن امتدحها إدوارد سعيد وأثنى عليها وعلى يساريتها ونضالها، فكانت هي الأخرى، تلك التي تسمو عن باقي بنات كارها وتتعالى عن فعل الرقص المجرد وتقرنه بفعل يتسم باحترام أكبر من الناحية الاجتماعية. وقد حدد في وصفها أنها لم تلجأ للتعري الخفيف لإثارة الغرائز ولا لهزهزة ثدييها ” (تحية كاريوكا هي تاريخها ذاته. مجلة ميريت الثقافية العدد ٣٩. مارس ٢٠٢٢). دائما هناك صنفان فقط من النساء، لا ثالث لهما، المحترمة وغير المحترمة، ودائما يحق للرجال، أيا كانوا، أن يضعونا في إحدى الخانتين. يحمل مصطلح الرقص الشرقي عند الغالبية معنى شديد السوء يتراوح بين الوصم الأخلاقي والاحتقار الثقافي فهو شديد الارتباط بأجساد النساء وبالتالي بالإغراء والجنس. لا يمكن إنكار أن الرقص الشرقي، كممارسة لطالما كان مرتبطا بمتعة الرجال سواء عبر الفرجة عليه أو عبر امتلاك أجساد الراقصات جنسيا. لكن، هل يمكننا اختزال الوضع في ثنائية الرجل المتفرج/ المستمتع والمرأة الفرجة/ المكرهة؟ ألا نعيد بذلك استخدام نفس منطق المنظومة الأبوية التي تنفي عن النساء الرغبة في الرقص كممارسة أو الرغبة فيه كأداة غواية حتى والاستمتاع بذلك؟ ربما يمكننا فهمه بطريقة أعمق لو عقدنا مقارنة مع ممارستين أخريين تتسمان بالتعقيد نفسه في التناول: الجنس والإباحية. أتوقف كثيرا عند هذه النقطة لأتساءل: ما المشكلة في إثارة الغرائز بالرقص أو بغيره من الأساس؟
النسوية والاحترام
بعد سنوات من التواجد والتشابك مع المشهد النسوي في منطقتنا، أقرّ أن أجسادنا كأفراد نعرّف أنفسنا كنساء لازالت محل نزاعات وتابوهات وتفاوضات وحروب يومية لاستخدامها كما يحلو لنا. لازالت مفاهيم مثل المتعة الجسدية والجنسية والتعرّي وتعدد العلاقات والعلاقات العابرة والمفتوحة واستعراض أجسادنا ونشر صورنا وفيديوهاتنا مثار جدل بين النسويات أنفسهن. هناك دوما مجموعة تطالبنا بالمثالية والكمال حتى لا نسيء للقضايا، تطالبنا بإلغاء الشخصي “الفضائحي” من حياتنا العامة حتى لا تُسقط عننا الشرعية لأننا نمارس الجنس مثلا. لم ننسَ تخلي نسويات تطهيريات وإسلاميات عن رهف القنون مثلا عندما اتضح أن حياتها الجنسية كانت حافلة قبل و بعد هربها من السعودية، ولم ننس تخاذل العديد من النسويات عن دعم فتيات التيك توك ومسايرة النظام المصري في اتهامهن بالتعدي على القيم والأخلاق. ومطالبات بازدراء أجسادنا والظهور بمظهر “محترم” حتى يصبح لخطابنا قيمة ووزن، فلا أحد سيهتم بما تخبرنا إياه ناشطة نسوية ترتدي ما يبرز ثدييها أو، يا للهول، تهز ردفيها وترقص وتتمايل بل وتنشر رقصها على الملأ، فرجة للرجال الذين يسيل لعابهم على جسدها. تطالبنا، تلك النسويات، بألا نستخدم الشتائم بالمطلق وألا نستخدم الكسميات تحديدا، حتى لو كانت بذاءاتنا موجهة للصهاينة، فعلينا احترام أمهاتهم لأنهن نساء. تلك النسويات المحافظات لا يستندن لمرجعية إسلامية حصرا، بل يتجاوزنها لتطهيرية أمريكية الهوى، تعادي جميع مظاهر “الانحلال الأخلاقي” وتترفع عن مطالب الجسد وتعادي العابرات وعاملات الجنس وجميع من يخرجن الجسد النسائي من الغرف المغلقة والأطر التقليدية للعلاقات الأحادية الموثقة والهادفة، وتشمل القواعد الشائعة لهذه الأيديولوجية: “أنتِ كائن أرقى من الرجل، لا تمارسين الجنس إلا عن حب ومع رجل واحد، لا تشاهدين الأفلام الإباحية ولا تلهثين خلف الممارسات العشوائية ولا تحبذين السادومازوخية وتترفعين عن قبول مهر عند زواجك، فأنتِ لا تبيعين جسدك ولا تثيرين الرغبات بمفاتنك، أنتِ غالية ولن ينالك إلا من يستحقك. لا تقعي في فخ الأبوية، احفظي جيدا ما تفرضه عليك كامرأة، ثم افعلي عكسه تماما حتى تكوني نسوية حقيقية متمردة”.
لطالما كانت علاقتي بجسدي ورغباتي وتفضيلاته، وعلاقتي بالجنس شديدة التعقيد، بحكم نشأتي في مجتمع محافظ جدا ومتقوقع على نفسه، بما لم يتح لي فرصا كثيرة للتجارب الحسية والاستكشاف الذاتي أو الجماعي. النسوية زادت هذه العلاقة تعقيدا، على الأقل في البداية. النسوية جعلتني أتساءل: هل من حقي استخدام جسدي كأداة إثارة وإغراء؟ أوليس هذا الدور المنتظر مني كامرأة حسبما تمليه علينا المنظومة الأبوية؟ لكن، أليس من حقي أيضا، الانصياع خلف رغباتي الجنسية وبشكل من الأشكال، تحدي نفس هذه المنظومة التي تحاول كبح جنسانيتي وقولبتها؟ ما الذي سنفعله بكل هؤلاء النساء اللواتي يرغبن بالرقص؟ هل علينا منعهن؟ تحقير ما يفعلنه؟ إقصاؤهن؟ أهذه هي النسوية الواحدة الوحيدة الوصائية مجددا؟ هل علينا أن نخجل مجددا من كوننا نساء ونخفي رغباتنا ونتنصل من جنسانيتنا بحجة أنها متوافقة مع الدور الذي تحدده لنا المنظومة الأبوية؟ ماهي الخطوة القادمة إذا اتبعنا هذا المنطق دون مراجعة؟ منع النساء من الحمل والإنجاب أيضا بما أن الأمومة هي أكثر دور يتم فرضه علينا وحبسنا داخله؟ الإصرار على أن جميع النساء بالضرورة مضطهدات داخل العلاقات الغيرية ولا يتقن التلاعب بموازين القوى داخلها واستغلالها لصالحهن ؟
العمل الفني: لينا
العودة إلى الرقص
لنعد للرقص. لا أود الحديث عنه كمجال فني أو بحث تاريخه ورمزيته وارتباطه بالطقوس الدينية قديما، ثم تزحزحه شيئا فشيئا نحو الهامش، لست باحثة متخصصة في هذا المجال، وسبق وأفردت له مجلدات ووثائقيات لمن يهمه الأمر. أود أن أتحدث كامرأة عادية، واحدة من بين مئات الآلاف من النساء اللواتي يرقصن أمام المرايا وفي الأعراس والمناسبات، وتلك اللواتي يرقصن أمام كاميرات هواتفهن أو يخصصن شريكا/ة بأدائهن في السياقات الحميمية. فتنني الرقص الشرقي مبكرا جدا، فتنني ذلك الجانب الحسي الذي كنت استشعره كطفلة دون إدراكه بصفة واعية. كنت أدرك فقط أن الراقصات نساء شبه عاريات يؤدين حركات تثير إعجاب الرجال في الكباريه ويذهبن عقولهم. وأردت أن أكون مثلهن، أن أمتلك تلك السلطة الخفية، سلطة الغواية وسحر الجسد. نشأت في بيئة تعتبر الرقص الشرقي تحديدا “قلة أدب”، عكس رقصنا التقليدي الجزائري الإيقاعي الخالي من الخلاعة بعد أن تم تشذيبه ليلائم الأمة الجديدة المحافظة على عروبتها وتدينها. رقصت أمام المرايا، رقصت وحيدة في غرفتي، رقصت أمام قريباتي أثناء تجمعاتنا الاحتفالية الخالية دوما من الرجال. لكن، كنت أتخيل كل مرة رجلا أو جمهورا من الرجال. مرت سنين طويلة قبل أن أرقص لرجل. ثم رقصت أمام رجال آخرين في أماكن عامة.
أرقص للمتعة، متعتي ومتعة الآخرين، متعة حسية بحتة تشبه تلك التي أستشعرها عند الاستلقاء شبه عارية على البحر. متعة الجسد المكشوف، المتحرر من قيود الملابس ومن قيود أخلاقيات الطبقة المتوسطة المحافظة التي خنقته لتحافظ عليه من نظرات الرجال ومن الاسمرار أرقص، أيضا، للغواية. الرقص الشرقي مثير، والإثارة تنبع من الحركات نفسها، من ملابس الرقص ومن الفرجة. عندما أرقص، أتفرج على نفسي بعيون أخرى، وأتفرج على نفسي بخيالي في الوقت نفسه. تختلط هذه الصور مع صور تنبعث من ذاكرتي، صور راقصات الأفلام القديمة وأتوحد معهن وأضيف غوايتهن لغوايتي. أستسلم لسحر حركات سامية جمال وأستلهم جاذبية تحية كاريوكا وأستحضر روح سهير زكي، فيرافقنني، آلهات الغواية والدلال. الرقص في إطار حميمي يضفي للجسد درجة إثارة من نوع مختلف: إثارة الطرف الآخر وإثارة التفكير فيما سيحدث بعد وصلة الرقص بين الجسدين. هذه الإثارة تتملّك الراقصة أيضا، وقبل المتلقي، فهي ليست مجرد أداة لخلقها عند الآخر. يعرّف كل من جيل بوتش، دوروثي جيليم1 الغواية على أنها ” طقوس للإيقاع بالآخر” تتراوح بين التمثيل والتمثيل الذاتي الحركي والحسّي المسرحي. هذا التعريف ينطبق أيضا على الرقص الشرقي، فهو ليس مجرد خطوات وحركات تعبيرية وفنية كالباليه مثلا أو الرقصات الفولكلورية. الرقص الشرقي دلع ومياعة وإغراء يتجاوز التعبير باستخدام الجسد إلى ترك ذلك الجسد يعبّر عما يختلجه من أحاسيس ومشاعر ويتشابك مع إيقاع الموسيقى ومعانيها أيضا، فهناك موسيقى سعيدة وأخرى حزينة (من حوار أحمد زكي ونبيلة عبيد في فيلم الراقصة والطبال) وموسيقى مليئة بالشبق لحنا وكلماتا، وأخرى تحمل اشتياقا ولوعا. ربما لهذا لا أرقص إلا لمن أتشارك معهم الخلفية الثقافية نفسها، فبكل تأكيد ستكون غوايتي ناقصة لو لم يستوعب الآخر لماذا اخترت “زي العسل” أو “لو على قلبي” حسب السياق، أو لو فاته إدراك أنني بنت السلطان التي تحمل الماء الذي سيرويه به بعد قليل، وهو العطشان.
مركزية الجسد وذاتيته في الرقص الشرقي يصفها عزت القمحاوي بأنها “حضور الجسد الواقعي بكل رفاهيته” (سالومي أشهر ضحاياه في التاريخ… هذا الفن المحتقر. مجلة ميريت الثقافية العدد ٣٩. مارس ٢٠٢٢). خطوات الڤالس معروفة، محددة ومحدودة والباليه يتطلب تدريبا للجسد على الخضوع والالتزام الممل والآلي. رقصنا الشرقي يترك مساحة أكبر للتعبير عن الشخصي والذاتي والمزاجي، كما أنه يتيح للجسد الازدهار في امتلاءاته ومنحنياته دون الحاجة لكبحها وإخفائها، بل يترك لها كامل الحرية في الاهتزاز والظهور والرقص وحدها أو مع باقي الجسد دون تكلف ولا اصطناع، وأنا أرقص فيستحيل جسدي لإصبع وسطى مشهرة في وجه تربيتي المحافظة التي تخاف من كلام الناس وترتعب من فلتان بناتها، وشخصيا، لا أحب تدريبات الرقص التي تجعل منه حركات محسوبة متكررة ولا الراقصات الأجنبيات اللواتي يمتلكن ليونة رياضية مبهرة لا تنجح في تعويض غياب الإحساس بالموسيقى وبمعنى الرقص الشرقي كمتعة حسّية بحتة، وكامتداد لثقافتنا وتصوراتها للمرأة وللجسد وللجنس. كيف لمن تعودت أن تمشي في الشارع بجسد لا تغطيه أمتار من الأقمشة أن تشعر بالمتعة الخفية الممتزجة بالقليل من الخوف والإثارة التي تصاحب ظهوري، بملابس مكشوفة أمام أعين الجميع كي أرقص وأتمايل بدلال؟ أرقص كي أقع في المحظور وأتجاوز المفروض.
ممارسات الغواية
أرقص، إذا، لغواية الرجال. الغواية سلطتي ونفوذي وسلاحي للتفاوض والمقاومة. تخبرنا كاثرين حكيم2 بأن الغواية رأسمال تحاول المنظومة الأبوية السيطرة عليه لأن الرجال لا يستطيعون احتكاره. تعمل المجتمعات الأبوية على تنشئة من يعرّفن أنفسهن كنساء على إخفاء هذا المورد وتجاهله تحت مسميات قديمة مثل العيب والحرام، أو مستحدثة مثل صورة الgirl boss التي تنجح لأنها تتقمص دور الرجل التقليدي بحذافيره وتمنع نفسها حتى من الحب. تقع بعض النسويات في الفخ أيضا فيعادين كل تمظهر للجسد أو الجنسانية الغيرية باعتبارها تصب بالنهاية في مصلحة الرجال الذين يستمتعون بالفرجة على أجسادنا ويستخدمونها، فلا ينبغي أن نمكّنهم من ذلك حتى لو عشنا كراهبات. هذا الموقف المتشدد أخلاقيا، يتجاهل موازين القوى داخل الثنائيات النمطية الغيرية تحديدا، بكل أطيافها واختلافاتها، فرغم قولبة الأبوية للعلاقات، هناك دائما استثناءات ومواقع، ثابتة أو متبدّلة، وصراعات، ليست بالضرورة عنيفة، تتجلى بشكل خاص ومكثّف في العلاقات الجنسية وما يوازيها من ممارسات إيروتيكية. لعبة الغواية قطعا إحداها. جميعنا ورثنا قصص الأمهات والجدات والعمات والخالات اللواتي حصلن على ما يردن من أزواجهن باستخدام سلطة غوايتهن، أثناء ما يسمى بأحاديث الوسادة أو بالابتزاز الجنسي. أو بمقايضة رقصة ليلة الخميس مقابل امتياز أو هدية. مقاومة المنظومة لم تكن دائما على شكلٍ ثورات وتمرد علني، التفاوض كان سلاح النساء للبقاء. تحليل تمظهرات الغواية كسلطة، سواء كانت سلطة نفوذ أو سلطة مقاومة، أو سلطة تماهي مع السائد والمفروض، أو حتى سلطة تحرر، مدخل ضروري لنسوية الجسد وكل ما يتعلق به سواء كان الرقص أو الجنس أو البورنوغرافيا، وعلينا خوض هذا النقاش يوما ما، حتى لو يكن هناك إجابة موحدة جامعة.
لماذا علينا أن نحصر النساء في دور المستقبلات لغواية الرجال وغير فاعلات؟ لم نصوّرهن طوال الوقت كضحايا خاضعات فقط بينما الواقع غير ذلك؟ حتى في أكثر العلاقات حدية والتي يسيطر فيها الرجل ويبسط نفوذه على جميع جوانب الحياة، هناك متنفس وهامش لاكتساب بعض النفوذ. الغواية هي في حد ذاتها نوع من السلطة وتحتاج لهامش من الحرية لممارستها وليس فقط للامتناع عنها، حتى لو كانت العلاقةً في نشأتها غير رضائية تماما حسب مفهوم التراضي الغربي الواضح الصريح والذي لا ينطبق على سياقنا، حيث لا تزال الفتيات يتزوجن دون سابق معرفة بالعريس ولا تزال موافقتهن ثانوية جدا في مقابل كلمة الأب ورضا العائلة عن الزيجة. حتى في هذا السياق، تنخرط النساء في لعبة الغواية، الغواية من وجهة نظر نسوية لا تتجاهل موازين القوى بل تعيد تعريفها وفهم سياقاتها المختلفة ومنها ليست دائما ثابتة.
كيف يمكننا أن نعيد قراءة الرقص الشرقي من منظور نسوي؟ كيف يمكن لممارسة شديدة الالتصاق بالتنميط الجندري أن تكون أداة تحرر وانعتاق وتمرد أيضا؟ كيف علينا كنسويات تفكيك الوصم والتعهير المتعلق بأجسادنا والجنس والإثارة والإغراء؟