بقلم إيفيميرل رشدي
ترجمة نوارا علي
‘من تصوير يوسف شريف، من تصوير ‘من الحارة
العارض اسماعيل
ملاحظة: تم اعداد واستخدام التصوير لأسباب تعبيريية وذلك لعكس محتوى المقال
هذا المقال من ملف ‘الهجرة والغربة’ – هيكل العدد هنا
الجندر والثقافة ليسا مثل الدول ذات الحدود الواضحة، هما ليسا مفردين بالمعنى ولا يخضعان لاختزالات الفصل بين الأشياء.
عندما كنت أصغر سنًا، لم أشعر مطلقًا أنني مصري ولا أمريكي بشكل معين، والدتي توقفت عن التحدث معي باللغة العربية بعد 11 سبتمبر من أجل سلامتنا، كنت حينها في الرابعة من عمري. كنّا مشردين من منزلنا وعشنا في سيارتنا لمدة عام تقريبًا، وكنا نواجه عنفًا متصاعدًا ضد العرب وأي شخص يبدو عربيا، على الرغم من فقدي قدرتي على التحدث باللغة العربية إلا أن شدّة اللغة ترددت في صوتي، وعند الاستقرار في كاليفورنيا أصرّت إدارة المدرسة على حضور دروس علاج النطق لثلاث سنوات “للتخلص من لهجتي”، فشلهم في “إصلاح” لهجتي لم يكن لعدم محاولتهم لكن لأن أصوات التلفاز العربي والموسيقى كانت دائمًا ما تُعزَف في منزلي، وهذه المؤثرات المبكرة التي تعرضت لها شكّلت الطريقة التي اتصلت بها بالعالم رغم أني لم أفهمها.
التعلم من خلال التعرض شكّل مفهومي عن الجندر أيضا، لقد استوعبت وأضمرتُ ما رأيت في المنزل، عملت والدتي ثلاث في ثلاث وظائف وتأكدت أن أتلقى أفضل تعليم ممكن، من خلال نشأتي معها فهمت الأنوثة على أنها القوة والذكاء والاستقلالية والتعاطف والصمود، لاحقًا فقط أدركت السياقات الأوسع للمجتمع وأفكاره حيث لم تخطر ببالي أبدّا.
“عربي من بلده وفي بلده قال ذات مرة لصبي وُلد في مستعمرة: أنت أيضًا عربي.”
عمر صقر من “ماهية أن تكون مقدسًا”
كان لدي إحساس ضعيف بما كان مصريًا بالتحديد أو أمريكيًا بالتحديد فيّ وفي عائلتي، كنت أعلم أننّا نشغل الموسيقى بصوت عالٍ ونحيّي جيراننا مع الحفاظ على مساحة بيننا، وأننّا عاملنا أصدقاءنا كجزء من العائلة وحضرنا المناسبات مبكرًا بعشر دقائق، وأننا نضع أحذيتنا دائمًا إلى الأسفل ونخلعها عندما ندخل المنزل.
لقد فهمت ما هو أمريكي و/أو مصري بشكل خاص فقط من خلال السفر إلى بلدان أخرى، في الولايات المتحدة كان الناس دائمًا يبحثون عن المكان الذي أتيت منه “حقًا”. في ألمانيا استغرق الأمر كلمة واحدة كي يميّز الناس فورًا أنني أمريكي، وفي الأرجنتين اعتقد الناس أنني كنت اجتماعيًا وكريمًا جدًا مع الطعام لذا لم أكن فعلًا أمريكيًا بالنسبة لهم، كانوا كثيرًا ما يسألونني من أين تعلمت المشاركة كأرجنتيني، وكانت إجابتي دائمًا: من والدتي.
ساعدني السفر في تعلم كيف يفسر الناس السلوكيات بشكل مختلف من خلال ثقافاتهم أيضًا، إذا صادفت شخصًا تعرفه في ألمانيا وجدتُ أنه غالبًا ما يكون من الفظاظة البقاء والتحدث معه لفترة أطول من تلك التي استغرقتها في تحيته لأنني كنت أتعدى على وقته، لقد فهم الأمريكي بداخلي هذا، أما في الأرجنتين من الوقاحة رؤية شخص تعرفه وعدم التوقف والسؤال عن حاله، جوهر المعاملة لم يكن وقت الفرد بل طبيعة علاقتكما، كان هذا منطقيًا بالنسبة للمصري بداخلي، وأظهر ذلك لي أنني ابن ثقافتين حقًا.
“وفي كل يوم لمدة سبعة أشهر، كنت أعلن فرحتي من أعلى المنزل – ومع ذلك لم ينتبه لي أحد، وكنت أنا وفرحي وحدنا غير مرغوب بنا ولا أحدٌ مهتم لنا.”
خليل جبران من “ولما وُلد حزني”
ربما أدت نفس نسبية السلوك والشفرات الثقافية إلى تأخير وتعقيد استكشافي لهويتي الجندرية، أثناء إقامتي في الأرجنتين وضعت قرطًا في أذني اليسرى كنيةً عن الالتزام باستكشاف المزيد من أشكال الأنوثة، كان هذا بالنسبة لي فعلًا أنثويًا فاجأ وأربك بالتأكيد جدتي المصرية التقليدية، لكن في كاليفورنيا كانت التعليقات الوحيدة التي تلقيتها عن قرطي أنه يجعلني أبدو رجوليًا بشكل خاص، عندما ارتديت الجلابية في الولايات المتحدة صُدم الناس في البداية من غرابتها لكنهم نظروا إليها على أنها فستان، وربطت الجلابية بجدي (رحمه الله) الذي جسد النموذج المثالي للرجولة بالنسبة لي عندما كنت صغيرًا، أتسائل إن أثّرت تصوراتهم المسبقة عن الأشياء على استيعابهم فرحتي بالتعابير الجندرية.
مشكلة أخرى في عملية استكشاف جندري وثقافتي كانت شحّ النماذج أو الأطر التي شعرت أنني أستطيع التوافق معها، شعرتُ أن الأندروجينية الأمريكية البيضاء اختزالية وكأنها محاولة لتكون/ي بلا جندر، وكان هذا الاختزال قريبًا جدًا من مخاوفي المبكرة بشأن الثقافة، كنت أحاول التخفيف من مصريّتي في الولايات المتحدة وأحاول إخفاء أمريكيتي عند زيارة عائلتي في القاهرة، شعرت في كلتا الحالتين بالارتباك وقيل لي دائمًا أنني لا أنتمي حين كنت أكون على سجيتي، يبدو أن الأعراف الثقافية المقيدة والأعراف الأندروجينية الأمريكية البيضاء تشتركان في نفس الجوهر: معيار قساوة قائم على الإقصاء.
ما كنت أتوق إليه عند استكشافي الجندر هو مفهوم لاثنائية جندرية مليئة بالجندر، الفهم العميق لنفسي يعني أنني لن أضطر إلى إنكار ذكورتي لتكريم هويتي غير الثنائية، ويعني الحقيقة البسيطة المتمثلة في أن الجندر الخاص بي يشمل أكثر من مفهوم واحد. لماذا علي أن أحلق لحيتي لتكريم أنوثتي؟ الآن عندما أرتدي الجلابيات تعلمت تخويل نفسي أن أكون ذكريًا بشكل ثابت وأنثويًا بشكل متماهي، لست مضطرًا لتفضيل تفاهم ثقافي على الآخر فقد وجدت مساحة لأرى الجندر لا مجرد طيفٍ بين الذكر والأنثى لكن طيفًا ثلاثي الأبعاد موجودًا بين الأعراف الجندرية التقليدية والتقاطعات الثقافية ومعرفة الذات.
“أنت تعرف أمّك.. أمّا أبوك… فأنت!”
محمود درويش من “إلى شاعر شاب”
يتمتع كل الأشخاص بحرية التعرف على ذواتهم/ن بشروطهم/ن الخاصة مما يسمح لثقافتهم/ن بصياغة جندرهم/ن ويسمح للجندر أن يصيغ ثقافتهم/ن، يسعدني إعداد الطعام لشريكي وتكريم شكل جندري للتعبير عن الحب تعلمته من مشاهدة جدتي، أجد قوتها الخالدة في نفسي عندما أقوم بقلي شيء ولا أتردد عندما يتناثر الزيت على يدي (وهي مهارة طورَتها خلال سنوات من قلي الطعمية صباح كل يوم سبت لإفطار عائلي)، قد يلوم شخص آخر ربط فكرة إعداد الطعام -وهي مهارة أساسية ضرورية للبقاء- بأي جندر على الإطلاق، جمالية الفهم الواسع للجندر والثقافة تكمن في تقبل الناس باختلافاتهم البسيطة، وبنفس الطريقة التي أستطيع بها أن أكون أمريكيًا جدًا ولا أزال مصريًا بعمق يمكنني احتضان كل من الأنوثة والذكورة وإعطاء مساحة لأشكالٍ من الوجود تتجاوز حدود أي من الفئتين. في هذه اللحظات من التعرف على الذات، نسمح لذواتنا أن نفوق أنفسنا من خلال الارتباط بجذورنا والنمو في اتجاهات جديدة.
ومن خلال فهم الذات الداخلية الغنية للآخرين وتكريمها دون اختزالها في فئة يمكننا أيضًا منحهم/ن المساحة لتحديد جندرهم/ثقافتهم/وجودهم بطريقة منطقية بالنسبة لهم، وقد يساعدوننا في رسم صورة جديدة للعالم الذي يمكننا مشاركته ومزج تجربتهم/ن وتجاربنا الخاصة على مضض.