بقلم شمس س.
ترجمة: هبة مصطفى
العمل الفني: لينا أ.
هذا المقال من ملف ‘الهجرة والغربة’ – هيكل العدد هنا
“شيء ما لا يبدو على ما يرام”، هذا ما فكرت به وأنا أسير في شوارع إدنبرة حيث وصلت قبل بضعة أشهر لبدء برنامج للدراسات العليا. كانت سماء المساء صافية والمناظر الطبيعية مزيج خلاب من العمارة القوطية التاريخية والمساحات الخضراء الوارفة، جو ساحر سيجد كل من كبر على مشاهدة أفلام ديزني نفسه/ا في نشوة لرؤيته، ومررت بواحدة من أجمل كاتدرائيات المدينة وجلست على مقعد يواجه جانبها وأنا أشعر بأنني مكتملة وناقصة في الوقت عينه. كان الأمر كما لو كنت أتنفس في تلك اللحظة لكني عاجزة عن إيجاد ما يكفي من الهواء لملء رئتيّ.
بحثت عما كان يشعرني بهذا القدر من عدم الارتياح ولماذا كان صعبًا عليّ فهمه؟ أكان شعورًا شخصيًا؟ أم رغبة لم تتحقق؟ أم شعورًا بالإقصاء؟ أم حنينًا مبهمًا؟ شعرت أنه من السهل للغاية فقد إحساسي بالثقة كما لو كنت ممسكة بخيط استطعت الإمساك به بسهولة أحيانًا وينزلق من بين أصابعي أحيانًا أخرى. كنت محاطة بكل ما يمكنني تمنيه لكني أدركت أنه أحيانًا لا يتطلب الأمر سوى لحظات ليتداعى كل شيء.
أن تكون كويريًا/ة عربيًا/ة بعيدًا عن موطنك أمر يشعرك بالتحرر والعزلة في آن معًا؛ ففي البداية تشعر بالخفة الشديدة التي تجلبها حداثة المجهولية فلا أحد يعرف من أنا وأين كنت وما هي ملامح هويتي التي قضيت في تشكيلها زمنًا من التحدث مع العالم من حولي، وأخيرًا حصلت على الفرصة لبدء حياة جديدة وارتداء عباءة التخفي والعيش بعيدًا عن أشكال القمع ذاتها التي دفعتني بعيدًا ولو مؤقتًا.
يشعرني الاستمتاع بهذه المجهولية بشعور رائع؛ فكان بمقدوري استخدام مواقع المواعدة دون الحاجة إلى القلق بشأن ما إذا كان يتم تعقبي أو قول “أنا كويرية” في التجمعات الاجتماعية التي وفرت لي مساحة أو تقبيل صديقتي في مسيرة فخر وأنا أعلم أن سمعتي لن تتلطخ للأبد أو حضور حفلات ملكات الاستعراض التي أتاحت لي استكشاف الأبعاد غير المحدودة للجندر والبحث عن الذات، وكانت هذه كلها سبلًا هامة لاحتضان إحساسي بذاتي في العالم وعرفت أن تقويض لغة الخزي والتخريب الذاتي المتأصلة بعمق، فكان عليّ القفز إلى الهاوية، ومع هذا على عكس ما كنت أتوقع لم تكن هذه الهاوية سحيقة وأدركت بتحطمي أن الحرية ليست كافية، وكانت مدة الارتياح لأن يراني الغرباء على ما أنا عليه حقًا أقصر مما كنت أتخيل.
ففي النهاية لا تتمحور الكويرية حول الجنسانية أو التعبير عن الذات فحسب بل حول أبعادها الكثيرة والمختلفة: ما هو تاريخ كويريتي وتنشئتي؟ ما هي القيم التي تحملها الكويرية وكيف تفهم التواصل؟ ما هي ملامحها وظلالها وأعماقها؟
غالبًا ما نسأل عما يعنيه أن تكون كويريًا/ة في العالم العربي لكننا نادرًا ما نسأل عما يعنيه أن تكون عربيًا/ة في عالم الكوير؛ فمن السهل أن نطرح السؤال الأول لأنه متجذر في تاريخ الافتراضات الغربية عن الحياة فيما يُسمى الشرق الأوسط، كما أننا لا نشكك في تعددات الهوية الكويرية أو الطرق التي تتشكل بها في السياقات المختلفة والسبب في ذلك على وجه التحديد هو أن الكويرية مؤطرة كخاصية مستوردة، وقد تجلت نسبية الكويرية لي عندما أصبح هناك تواصل بين رؤيتي للكويرية والآخرين.
وعندما بدأت إثارة المجهولية تخبو بدأت رغبتي في التلاشي في هوية غير محددة تخبو هي أيضًا، وعلى النقيض من ذلك أردت الاندفاع نحو النقيض: الاعتراف بكويريتي بصفتي عربية وبعروبتي بصفتي كويرية، وبطريقة ما كان ذلك احتفاءً بتقاطعية الهويات المعقدة وسياساتها وبطريقة أخرى كان ذلك ناشئًا عن وحدة عميقة مع شعور بأنه لم يكن هناك اعتراف بكويريتي “المميزة”، تلك الكويرية التي انبثقت من ثقافتي.
وربما هذا ما يحدث عندما يواجه الفرد إنكار الهوية أو الإهمال – يصبح هذا جزءًا أكثر بروزًا في هويته/ا، فعندما كنت في وطني كانت هويتي الكويرية تأتي في المقدمة وعندما كنت بعيدة عن الوطن كان الشيء ذاته يحدث مع هويتي العربية، لكن الحقيقة هي أن الهويتين متشابكتين للغاية وأن أي محاولة لفصل إحداهما عن الأخرى تبدو وكأنها تفكيك لدروز ثوب قضيت عمري في حياكته.
يصف محمود درويش العلاقة بين الهوية والمنفى كعلاقة إثراء متبادل، فيقول: “عندما تكون في بيتك لا تمجد البيت ولا تشعر بأهميته وحميميته، ولكن عندما تحرم من البيت يتحوّل إلى صبابة وإلى مشتهى، وكأنه هو الغاية القصوى من الرحلة كلها”1، فحتى رحلة الفرد الرومانسية والمتلهفة تتحول إلى رحلة يتخللها اشتهاء للوطن.
وبالنسبة لي، كانت المسافة بيني وبين الوطن تعني أنني سعيت إلى العثور على وطن في شريكة، وتجلى ذلك في اشتياقي إلى أن تكون لغتي في الحب “حبيبتي” وليس “sweetheart” وإلى أن يكون موعدي المثالي نزهة على رصيف متكسر من كورنيش بيروتي على نحو جعلني أشعر بأن انكساري واشتياقي أمرين مرغوب بهما وإلى الاستيقاظ صبيحة يوم أحد هادئ على الاستماع إلى لينا شماميان بينما نعد أنا وشريكتي الفطور. اشتقت إلى قدرتي على ضم العالمين معًا: حبي للوطن وحبي لامرأة وحبي لامرأة بينما أنا في الوطن، وهذا كله وأنا أعلم أنه لا يمكن نوعًا ما التوفيق بين العالمين.
أن تكون كويريًا/كويرية في المنفى هو العيش في حالة دائمة من الحديّة ومن عدم الوجود بصورة كاملة في أي من العالمين، أو الاعتراف بأنني سأحتاج دومًا إلى أن تكون لي صلة بالعالم من حولي على أجزاء متقطعة، أو الإحساس – كما يقول إدوارد سعيد – “بأنني أنتمي إلى كلا العالمين، دون أن أكون كلية جزءً عضويًا من أي منهما”2، وما أن أظن إنني اندمجت كليةً في أحد العالمين – إما بكوني كويرية بالكامل راضية عن أسلوب حياتها المنفتح أو قبول مساومة النزعة المحافظة لعيش حياة أقرب إلى الوطن والقلب – حتى أجدني مدفوعة نحو بندول التأرجح للأمام والخلف بين العالمين.
ليس الأمر سهلًا وهناك الكثير من الحزن المصاحب للطفو بين العالمين، لكن كما تقول شيماماندا نغوزي أديشي يتعلم الفرد: “مقدار الحزن المحيط باللغة، وإخفاقها، وفهمها”3؛ فاللغة موجودة لتذكرنا أن الوطن ليس دومًا المكان الذي نوجد فيه بل دلالة على نوع من الإدراك، وعندما نُفهِم شخص ما أمر ما فإننا نجعله/ا يدرك/تدرك دلالته الكاملة، وعندما نقول إن شيئًا ما شخصي فإننا نشير إلى دلالته بالنسبة لنا، وأحيانًا نوضح ما نريد قوله بتكرار الأمر ذاته مرات عدة حتى يصبح مفهومًا، وفي مرات أخرى نسافر بعيدًا عن الوطن لمجرد أن نتعلم أن الوطن هو حيثما كان القلب.
وآمل أن تتعلم قلوبنا أن تجعل الكويرية بعضًا من الوطن والوطن بعضًا من الكويرية.