بقلم ملاك الغريب
العمل الفني: عمر شاع
هذا المقال من ملف ‘الهجرة والغربة’ – هيكل العدد هنا
في الحقيقة لم أكتب هذا المقال لكي أصل إلى أطروحة واضحة أو لإجابة على سؤال محدد، على قدر ما كنت أرغب بتفريغ خواطري وإزاحة كل مشاعر الديسفوريا الوطنية الحزينة والانزعاج من هويتي الوطنية أثر معايشة العديد والعديد من موجات الكراهية من على صدري، ولذلك فربما يكون هذا المقال غاضب وعاطفي أكثر من إنه يسعى لإثبات وجهة نظر أو التنظير لرأي ما.
بين كوين بوت وسارة
منذ 20 عاما حينما كنت أتحسس طريقي لفهم واستيعاب ميولي الجنسية وهويتي الجندرية ومن أنا، رأيت في المجلات والجرائد أسماء المقبوض عليهم في القضية التي عرفت إعلاميا باسم الكوين بوت، حينها تعلمت أول درس عن الجندر والجنسانية في مصر… أنه من هم مثليين/ات هم مطاردون/ات من المجتمع والدولة ويزفّهم الإعلام بموكب من العار مع أعين مليئة بالشماتة من كل أفراد المجتمع.
منذ انتحار صديقتي العزيزة سارة حجازي وأنا محتارة وتنتابني حالة من الانزعاج من هويتي الوطنية وأعتقد أنها انتابت العديد من أقراني وقريناتي في مجتمع الميم، هذه الحالة زلزت هويتنا الوطنية لما شاهدنا من رد فعل من تعليقات على منصات التواصل الاجتماعي من طوائف مختلفة من الشعب المصري والشعوب العربية تنهش في لحم الفقيدة وفي لحمنا معها.
خسارتي لسارة على المستوى الشخصي كانت كبيرة فهي -وبرغم بعد المسافة بيننا وبالرغم من أننا لم نتحدث كثيرا إلا بعد رحيلنا نحن الإثنتين من مصر- كانت دائما تتسع أحضانها للجميع، كانت تهتم بأدق تفاصيل حياتنا وتدعمنا خلال تلك التفاصيل في حياتنا بالرغم من معاناتها هي شخصيا كل يوم!
لكن حجم الكراهية التي تولدت وظهرت على السطح بعد فقد سارة كانت كفيلة بأن تبتلع حزني على المستوى الشخصي لتدخلني على مدى شهرين حتى الآن في حالة يمكن تسميتها بحالة من الديسفوريا الوطنية. حالة من التأمل في لماذا مازلنا نشعر بالانتماء إلى أوطان لم تسعنا ولم نجد لنا مكاناً بين أهلها، لا أحياءاً ولا أمواتاً. حالة متداخلة مركبة من مشاعر الحب والكراهية، تولدت عبر السنين تجاه أوطاننا، أصبحت علاقتنا بالوطن مدمرة لأنفسنا، لأننا إن حاولنا فقط أن نكون أنفسنا داخل أوطاننا سيصيبنا عقاب بالغ من الدولة بشكل ممنهج ولن يترحم علينا المجتمع أيضا ولن يقرأ على أرواحنا الفاتحة، وإن قررنا أن نعوم في تجاه الموج وكما ترضى عنا مجتمعاتنا، سنعيش كأشباح، موتى من الداخل.
“ولكن رغم كل ذلك وحتى بعد أن قررنا الرحيل لم نستطع الرحيل بكامل عقلنا وروحنا، شيء ما منا يظل موجودا هناك على ضفة النيل، في ميدان التحرير وفي أزقة وسط القاهرة”
بعد الرحيل
ولكن رغم كل ذلك وحتى بعد أن قررنا الرحيل لم نستطع الرحيل بكامل عقلنا وروحنا، شيء ما منا يظل موجودا هناك على ضفة النيل، في ميدان التحرير وفي أزقة وسط القاهرة… نفكر كل يوم بالعودة ولكننا أيضا نخشى أن نعود حتى لا تعود حيواتنا كما كانت سابقا ولا نستطيع أيضا التقدم للأمام خطوات في مجتمعاتنا الجديدة نجد مائة ألف عائق ونختلق لأنفسنا عوائق أكثر ربما تكون في مخيلاتنا فقط.
كتبت في هذا العام في مجلة ماي كالي عن مشاركة مجتمع الميم في الثورة المصرية في 25 يناير 2011 وكنت دائما ما أبحث عن تسليط الضوء على الحق الكويري في السرد التاريخي. ولكن أنا الآن أشعر وأفكر ما إذا كان هناك فائدة من ذلك؟ ما الفائدة في أن نكون دائما نحارب كأقليات في كل الجبهات؟ نحارب ضد الاستعمار، الغسيل الوردي، الفساد، حق شعوبنا في أن تحيا حياة كريمة في حين أن تلك الشعوب نفسها تكون قاسية القلب علينا دائما وتتمنى لو لم نكن خلقنا من الأساس كجزء منها. سارة حاولت أن تحارب كل ذلك… ولم يشكرها أحد ممن كانت تدافع عنهم طوال الوقت، مازالت رفيقاتي ورفاقي من مصر يقفون دائما بجانب نشطاء المجتمع المدني المناهضات/ين للحكم العسكري والنظام في مصر في حين أن لم يفكر معظم هؤلاء النشطاء في التضامن مع مجتمع الميم إلا بعد فقد العزيزة سارة والكثير منهم/ن فعل ذلك على استحياء.
منذ ثورة 25 يناير وقد أتى الحديث عن حقوق الميم في العديد والعديد من الاجتماعات والأحداث بين النشطاء وأيضا العاملين/ات بالمجتمع المدني وكانت تتدرج الإجابة دائما بين “مش وقته” إلى “لا، ما بدافعش عن حقوق الخولات” لم يكن متضامنا غير مجموعات من النسويات واللائي أيضا كان يتم تهميش حقوقهن في المجتمع المدني والنشاط السياسي، ربما لأن أحيانا التهميش يكون دائما دافع للتضامن بين الفئات المهمشة. كان يرى العديد من النشطاء والناشطات السياسيين وقتها أن حقوق مجتمع الميم تأتي في نهاية الطابور بعد جميع حقوق فئات الأغلبية مثل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وحقوق المعتقلين السياسيين ….إلخ. ورغم ما تعرضنا ونتعرض له من تهميش، لا يمكنني أبدا أن أقول أننا سنتوقف عن الوقوف في صفوفهم أو سنكون ضد المناضلين والمناضلات ضد الحكم العسكري في مصر يوما ما. ولكن علاقتنا بهم أصبحت جزء من الاغتراب بالوطن نفسه وداخل أكثر الدوائر التي ربما تكون متسامحة مع تواجدنا وسطها.
علاقتنا بأوطاننا أصبحت تشبه علاقتنا بأجسادنا، هي أجسادنا ولكن لا نشعر أيضا إنها أجسادنا يعيش جزء كبير منا محبوساً/ات بداخلها ودائما ما تطور علاقتنا بها إلى علاقة من الحب والكره معا، أحيانا كثيرة تكون الكره فقط، ولكننا لا نستطيع مغادرتها، ودائما من الصعب تغييرها لنصبح راضيين/ات عنها. هكذا مثلا هي علاقتي ببلدي مصر حتى وبعد أن غادرته، أشعر أنه لا أستطيع الانقطاع أبدا عنه، أحس كأن شيئا عالقا منه داخلي أو أني تركت جزء مني به عندما غادرت، لا أستطيع الاندماج بشكل كامل مع وطن جديد، وأخشى العودة إلى موطني الأصلي بل ويحذرني الجميع من ذلك.
ننظر لأوطاننا في المرآة كما ننظر لأجسادنا … نتفحصها في محاولة لفهم كيف ننتمي إليها تفنيد مشاعرنا نحوها والتي غالبا ما تكون متشابكة، صعبة الفهم ومزعجة. ولكننا أيضا لا نستطيع البوح بتلك المشاعر، علاقتنا بأوطاننا تصبح أكثر تعقيدا يوما بعد يوم، أكثر من أعرفهم/ن بالمهجر الكويري يريدن/ون العودة لأوطانهم/ن ولكنهم/ن لا يستطيعون ذلك لأسباب مختلفة من شخص لشخص ولكن تتعلق في معظم الأوقات بالأمان الشخصي والنفسي، كذلك هي علاقتي أيضا بالقاهرة وبمكان ولادتي، أريد العودة وأحيا على الذكريات بين شوارع القاهرة وربما أبدأ بالبكاء عندما تستدعي ذاكرتي ذكريات ما. ولكن أيضا أتذكر دائما كيف كنت أخاف أن أكون نفسي في أي مكان بالقاهرة، كيف كان يصيبني دائما حالة من القلق عندما أمر على كمين شرطة برغم إنني لم أفعل أي شيء مخالف للقوانين مثلا ولكني كنت أعلم جيدا أن “أمين الشرطة” سيقوم بتلفيق أي شيء إذا أراد. كيف كنت أعود للمنزل وأشعر أن القاهرة كانت تضرب رأسي بمطرقة طوال اليوم فأنام منهكا لأستيقظ اليوم التالي فتعيد المدينة الطرق على رأسي بمطرقتها الثقيلة.
عزيزتي سارة، هل عرفتي معنى الوطن بعد أن رحلتي؟ هل تخبرينا عن ذلك من السماء الآن؟ عزيزتي سارة هل يمكنك أن تخبرينا عن ما يمكن أن نصل له إذا استمررنا في طريقنا نحارب من أجل أطياف أخرى تتمنى موتنا؟
هل الوطن هو الشوارع والمدن والساحات، أم أنه أوقات الصفاء التي استطعنا وبرغم الظروف عيشها وظلت أرواحنا متعلقة بها، أم أن الوطن هو الشعب أمهاتنا وأخواتنا اللائي لو علموا حقيقتنا ربما يترددون في الترحم علينا بعد أن نموت، أم انه وطننا هو العسكري وبيادته1 التي يطبق بها على نفوسنا ليمنع عنا النفس الأخير في الحياة.
ربما تكون الإجابة كما قال محمود درويش “ما هو الوطن؟ هو الشوق إلى الموت من أجل أن تعيد الحق والأرض، ليس الوطن أرضا، ولكنه الأرض والحق معا، الحق معك، والأرض معهم”.