بقلم خالد ع
ترجمة هبة مصطفى
اخراج وتلبيس يوسف الطاهر
هذا المقال من ملف ‘الهجرة والغربة’ – هيكل العدد هنا
تم تحديث المقال في ٢٤\١١\٢٠٢٠
لا ينزعج الكثير منا من الاتصالات الهاتفية التي تأتي من أرقام “غير معروفة”، لكن بالنسبة لمها المطيري، وهي امرأة عابرة جنسيًا من الكويت، تمثل هذه الاتصالات تهديدًا للحياة.
اكتسبت مها شعبية عبر العديد من منصات التواصل الاجتماعي، لاسيما “سناب شات”، وقد أدى ظهورها بوصفها امرأة عابرة جنسيًا في الكويت إلى اعتقالها في 26 شباط/فبراير 2019 بتهمة “التشبه بالجنس الآخر” وهو ما تجرمه المادة رقم 198 من قانون الجزاء الكويتي، وقد أصبحت مها حذرة للغاية بشأن كيفية تقديمها لنفسها واستخدامها لمنصاتها بعد الإفراج عنها في 22 أيلول/سبتمبر 2019؛ فكانت ترتدي الثوب والملابس الملائمة لكلا الجنسين، وتوقفت عن وضع مساحيق التجميل، وتجنبت الإشارة إلى نفسها بالضمائر “المؤنثة”.
ورغم حذرها وتجنبها لأي شيء قد يوقعها في مشكلة مع السلطات، استمر “رجال إنفاذ القانون” في التحرش بها والتهجم عليها، وشمل ذلك اتصالات هاتفية منتظمة ترد من مراكز الشرطة تطالبها بزيارة أحد المراكز، ولم تكن هذه “الزيارات” الحصرية كالتحقيقات التي تتم مع جميع الأشخاص الذين سبق القبض عليهم، لكنها تستهدف عابري الجنس على وجه التحديد لا لشيء سوى إذلالهم، وقد تعرضت مها خلال هذه الزيارات للإساءة اللفظية والجسدية مع تسجيل كل ما يحدث، وبعد كل زيارة كانت مها تأمل ألا تتلقى اتصالًا آخرًا محتومًا.
ومها واحدة من بين العديد من العابرات جنسيًا اللاتي تعرضن لعنف الشرطة في الكويت نتيجة للمادة رقم 198 والتي تنص على أن كل من”(تشبه) بالجنس الآخر بأي صورة من الصور” يُعاقَب بالحبس لمدة سنة واحدة وبغرامة تصل إلى 3,600 دولار أمريكي تقريبًا أو بإحدى هاتين العقوبتين، والمادة رقم 198 هي تعديل لقوانين “النظام العام والآداب العامة” الموجودة مسبقًا وقد أقرها مجلس الأمة الكويتي في أيار/مايو 2007، ووثقت “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها الصادر في عام 2012 بعنوان “They Hunt Us for Fun” وضع مجتمع العابرين جنسيًا في الكويت توثيقًا شاملًا، ويقارن هذا التقرير التحولات التي شهدها وضع العابرين جنسيًا قبل إنفاذ هذه المادة وبعد إنفاذها.
وكما هو الحال بالنسبة للعديد من العابرات جنسيًا في الكويت، لم يكن العبور العملية الصعبة الوحيدة التي كان على مها اجتيازها؛ فقد أدركت أن البلد والناس الذين تحبهم لن يبادلوها مشاعر الحب هذه أبدًا وعوضًا عن ذلك فرضوا قوانينًا تجرم هويتها، ولم يفوتوا أي فرصة لإقصائها وجعلها تدفع سلامتها الشخصية ثمنًا لظهورها وصدقها بشأن حقيقتها، ولا تغالب مها الصدمة الناتجة عن هذه الاعتقالات فحسب فعليها العيش أيضًا مع واقع أن العديد ينكرون حقها في الحياة والكرامة ويسلبونها هذا الحق.
“لا زلت خارج السجن ولم يتغير شيء فلا زلت امرأة عابرة جنسيًا”
كان “العبور الجنسي” مصطلحًا عايشته مها بصورة مباشرة لكنها لم تستطع تعيينه بدقة قط، فحسب قولها: “اكتشفت إنني عابرة جنسيًا عندما كنت صغيرة للغاية وأنا في رياض الأطفال أو ربما قبل ذلك، وكانت مرحلة صعبة للغاية بالنسبة لي فقد كنت طفلة وصغيرة جدًا ولم أدرك ما الذي يحدث أو ما الذي كنت أمر به”.
كان العبور شيئًا مألوفًا بالنسبة لها لكنها كانت تدرك منذ سن صغيرة الرفض الذي قد تواجهه من المجتمع بسبب هويتها، فتقول: “عشت في ضغط دائم وبسبب التقاليد في الكويت ومجتمعنا في العالم العربي بوجه عام كان من الصعب حقًا التعبير عن مشاعري أو إخبار أحد إنني أشعر بهذه الطريقة، لذا من الصعب جدًا علينا التحدث عن كوننا عابرين/ات جنسيًا مع عائلاتنا لأن هذه الموضوعات حساسة للغاية”.
وفي النهاية بدأت أسرتها تلحظ عليها أشياء معينة وهو ما كانت تريده مها أن يحدث وألمحت به إليهم، وعن ذلك تقول: “منذ كنت صغيرة لاحظت أسرتي الأمر تمامًا؛ فلم أكن أحب اللعب مع الصبيان قط وكنت دومًا أنتظر مجموعات أخرى من الفتيات للعب والتحدث معهن، لاسيما في أيام العطلات الأسبوعية ولطالما شعر الأولاد بنوع من المشاعر تجاهي” وتتابع مها مبتسمة “وفي الواقع أنا لم أحبهم مطلقًا”.
ومع نموها العمري نما وعيها بهويتها الجندرية، ولاحظت مها حتى قبل أن تقرر العبور أن كراهية الناس للعابرين/ات جنسيًا في مجتمعها تنعكس حتى على النظام الصحي؛ فحسب قولها: “لا يوجد في الكويت أية مرافق توفر لنا الخدمات، مثل العمليات الجراحية والهرمونات، من أجل العبور”، وإحباط مها من النظام الصحي مصحوب بكونه نسخة طبق الأصل من النظام الجنائي الذي يفرض المادة رقم 198 التي تجعلها هي وغيرها من العابرات جنسيًا “يواجهن قمعًا شديدًا في الكويت”.
وكانت وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة لمها للبحث عن غيرها من العابرات جنسيًا في الكويت والمنطقة والتواصل معهن، وقد وجدت كغيرها من أفراد مجتمع الميم عين العرب الذين يبحثون عن ملاذ في الفضاءات الرقمية يمنحهم الانتماء والإحساس بأنهم جزء من المجتمع والظهور، وقد وجدت مها هذا كله في “سناب شات” عندما بدأت استخدامه في الخليج في عامي 2014 و2015 وعن هذا تقول: “بدأت نشر لقطات لي علنًا بصفتي امرأة عابرة جنسيًا بشعر طويل يغطي ظهري بأكمله”، وفي البداية كانت هذه اللقطات مقصورة على معارفها أو المقربين منها لكن ما إن اكتسب حسابها اهتمامًا عامًا أدى ظهورها والمنصة التي أنشأتها إلى اعتقالها في عام 2019 وعن تجربتها هذه تقول مها: “حلقوا شعري قبل الإفراج عني الأمر الذي دمرني فهجرت “سناب شات” لفترة”.
وعندما عادت مها للنشر على “سناب شات” في وقت سابق من العام الحالي (2020) كانت حذرة من أجل سلامتها، وعن هذا تقول: “لم أعد أترك شعري يطول وأبقيته قصيرًا جدًا بعد ذلك، وعرفت أن كوني عابرة جنسيًا لا يعني أن يكون لدي شعر طويل؛ فقد كان ما شعرت به داخليًا كافيًا”.
وفي الخامس من حزيران/يونيو 2020 تلقت مها أحد هذه الاتصالات مرة أخرى، وهذه المرة سجلت فيديو تتهم فيه رجال الشرطة باغتصابها والاعتداء عليها وضربها ونشرته على “سناب شات” كاشفة بذلك عن العنف الذي تعرضت له أثناء اعتقالها وفي الزيارات اللاحقة، وبعد دقائق انتشر الفيديو سريعًا على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة الأمر الذي أدى إلى تداول عريضة للمطالبة بالإفراج عنها هي وغيرها من العابرات جنسيًا.
وكان العديد من متابعيها قلقين بشأنها؛ لأنهم كانوا يعلمون أن هذه الإدانة العلنية للانتهاكات التي تتعرض لها العابرات جنسيًا يعرضها لمزيد من الخطر، وكان بعض متابعيها من أصدقاء المحامية شيخة سالمين من مجموعة الجوهرة القانونية وتواصلوا معها لتتولى قضية مها.
“لا يرغب أحد في الإضرار بسمعته من أجل ‘حالة إنسانية’، لا أحد يهتم لذلك”.
تولت سالمين، التي لديها خبرة في الدفاع في قضايا تتعلق بالمادة رقم 198 دون مقابل، قضية مها على الفور قائلة: “هذا مجتمعي ولطالما كانت المعركة معركتي”، وتعمل سالمين مع عدد من خيرة المحامين بنشاط من أجل إلغاء المادة رقم 198، إلا أن هذه المعركة تبدو طويلة ومنهكة لأنه حسب قولها “لا يرغب أحد في الإضرار بسمعته من أجل “حالة إنسانية”، لا أحد يهتم لذلك”.
وما يجعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لسالمين هو أن القطاعات العامة نفسها، مثل القطاع الصحي، لا تعترف بقضية العابرين جنسيًا، ولهذا فإن خطر الاعتقال ليس الخطر الوحيد الذي تحاول إنقاذ العابرات جنسيًا منه، وتذكر أن “العابرات جنسيًا يشترين الهرمونات من السوق وهن لا يقمن حتى بذلك بوصفهن عابرات جنسيًا بل يطلبن من صديقاتهن متوافقات الجنس شرائها لهن، ويسافرن إلى بلدان مثل تايلاند للخضوع لجراحة زراعة الثدي، وهذا الأمر محفوف بالمخاطر وهن يعرضن أنفسهن للخطر لمجرد أن يعشن واقعهن”.
ولم يكن عمل سالمين سهلًا؛ فلم يكن بمقدورها بدء البحث عن مها يوم جمعة، اليوم الذي نُشِرَ فيه الفيديو، لأنها لم تكن تعلم المنشأة التي كانت مها موجودة بها على وجه التحديد، فغردت على حسابها تسأل أصدقاء مها المقربين لترى إذا كان هناك أحد يعرف المكان الذي توجهت إليه واسمها القانوني ورقم هويتها لتتواصل معها، وعندما تواصلت سالمين أخيرًا مع أصدقاء مها كان ذلك صبيحة يوم السبت فتوجهت إلى مركز الشرطة في اليوم نفسه وقدمت اسم مها القانوني كاملًا ومعلوماتها لتستعلم عنها، إلا أنه تم صرفها وطُلِبَ منها العودة يوم الأحد لأن السبت عطلة أسبوعية و”لا يوجد موظفون”.
وما كان أكثر إثارة للريبة هو أن الضباط قد زعموا فور وصول سالمين أن مها ليست موجودة لديهم على الرغم من أنها لم تذكر اسم المحتجزة التي كانت تبحث عنها، وتقول سالمين: “أخبرتهم أنني لم أعطهم أي اسم بعد وعندما فعلت تظاهروا أنهم لا يعرفون شيئًا عنها، فأخبرتهم أنهم لم يتحققوا من أي من ملفاتهم ولم يجروا أي اتصالات للتأكد وعندما أخبرتهم أنني حضرت بالأمس سألني أحدهم عما إذا كنت أسأل عن قضية “التشبه” وقال إنني سأجد مها في النيابة”، وتحققت سالمين في نيابتين قد تكون مها موجودة بأحدهما وسألت في النيابتين وأجرت اتصالاتها بهما لكن لم يكن هناك أي أثر لمها، وقد قال أحد الضباط لسالمين: “أخبرناكِ أنها غير موجودة لدينا، فهل تعتقدين أننا نخبئها؟”
وصبيحة يوم الإثنين، اتصلت مها بإحدى صديقاتها تطلب منها الحضور ودفع كفالتها، ويبدو أن مها كانت موجودة في النيابة التي كانت سالمين تبحث عنها فيها، ولم تكن مها تعرف سالمين قبل يوم الجمعة ذلك لكنهما عندما التقيتا أخبرت مها سالمين أن الشرطة أبلغتها أن هناك امرأة تغرد عن القبض عليها، وكانت هذه المرأة هي سالمين.
مقارنة هذا الاعتقال باعتقال عام 2019، تقول مها: “قصوا شعري واغتصبوني وعذبوني في عام 2019 … وهذه المرة كانت أفضل مرة عاملوني بها” وتضيف: “في المرة الأولى اعتقلوني لأنني كنت متهمة بـ “التشبه بالجنس الآخر”، وهذه المرة لأنني لم أكن خائفة من عيش حقيقتي بعد الإفراج عني”.
وترى مها وسالمين أن هذا يرجع إلى انتشار الفيديو، وتذكر سالمين أن “مها نفست عن نفسها عندما شاركت هذا الفيديو وكانت هذه طريقتها في قول “طفح الكيل” بشأن الطريقة التي كان يعاملها بها الجميع”.
وتعمل مها، مع سالمين ومحامين وناشطين آخرين في الكويت، حاليًا على مجابهة الحواجز التي تطارد مجتمع العابرين/ات جنسيًا في الكويت فيما تسميه “خطوات صغيرة”، وهم يفعلون ذلك بطريقتين: جمع القصص وتوثيق حوادث العنف الذي تمارسه الشرطة على مجتمع العابرين/ات جنسيًا والمحتجزين/ات الآخرين/الأخريات وكذلك رفع المادة رقم 198 إلى المحكمة الدستورية بمساعدة أطباء نفسيين وناشطين في حقوق الإنسان ومحامين.
ولم تتعافَ مها كليًا من كل شيء مرت به وتقول: “آمل أن تصبح الأمور أفضل وألا يكون السجن حلًا، فما الهدف منه على أي حل؟” وتتساءل مها: “لا زلت خارج السجن ولم يتغير شيء فلا زلت امرأة عابرة جنسيًا”، لكن ما زال يملأها الأمل بأن يتغير الحال بالنسبة لها وللعابرات جنسيًا في الكويت والمنطقة بمساعدة أناس مثل سالمين.
والآن، رغم كل الصعاب، لا تزال مها تجد ملاذًا في “سناب شات”، وعلى الرغم من اتخاذها لاحتياطات السلامة كافة تجنبًا لأي تهديد لسلامتها فإنها تخلق مساحات لرفيقاتها من العابرات جنسيًا في الكويت والمنطقة للتواصل والتعلم، وقد لا تكون الكويت تبادل مها حبًا بحب لكنها لن تتوقف عن حبها لبلدها أبدًا.
تحديث/إقرار:
عن الجدل الدائر في حزيران/يونيو 2020
نشرت مها في أواخر شهر حزيران/يونيو 2020 سلسلة من التغريدات والفيديوهات عقب القبض عليها شيطنت فيها المجتمع الذي دافعه عنها، وقد فهم كثير ذلك على أنه مناشدة لأغلبية المغايرين جنسيًا التي شيطنتها إلا أن هذا لا يبرر تعليقاتها.
غردت شيخة سالمين اعتذارًا في 15 حزيران/يونيو 2020 قائلة: “اتصلت على مها لاني فعلا كنت منزعجة من الموضوع؛ طلبت منها تفسير لما نشر ، و بينت ان نيتها ابدا ما اتجهت للاساءة لأي فئة، و انها استخدمت طريقة دفاع ‘ساذجة’ لما كانت قعد تتهاجم من البعض بسبب اللغلط اللي قعد يصير بين المثلية و العبور الجنسي”، كما قام ناشطان كويتيان من مجتمع الميم بالرد قائلين إنه على الرغم من أنه على مخا تحمل مسؤولية أفعالها، فإن هذه المسألة كانت مسألة تتعلق بالجهل والتعرض للنقاش والمعرفة (1 و2).
والأهم من ذلك أيضًا هو أن مها اعتذرت في 15 حزيران/يونيو على كلٍ من سناب شات وتويتر ذكرت فيها: “بعد مراجعة نفسي مسحت التغريدة الي وجدها البعض اساءة انا لا اقصدها، وأؤكد على تضامني مع مجتمع الميم الذي هو مجتمع انساني يستحق الكرامة والحياة الامنة والمزدهرة احبكم جميعا”.
ملحوظة من الكاتب:
بينما كان فريق ماي كالي يعد لإصدار العدد الأخير “الهجرة والاغتراب”، رجعت إلى مها المطيري وشيخة سالمين لأرى مما إذا كانت لا تزال لديهما الرغبة في نشر التحقيق الصحفي الذي كتبته عنهما، فأنا أفهم أن أي كلمة تُكتَب يمكن أن تعرض سلامة مها للخطر وأن تتسبب في مزيد من التعقيدات التي لا داعِ لها بالنسبة لقضيتها، وعلى الرغم من أنهما كانتا متحمستين للنشر وكانتا تجيبان عن أسئلتي وتطلعاني على مستجدات القضية منذ شهر حزيران/يونيو، فإنهما لا تزالان معرضتين للخطر – تم إلقاء القبض على مها مرة أخرى الشهر الماضي بسبب “التشبه بالجنس الآخر وإساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي” وأُفرِجَ عنها أخيرًا يوم الأحد الماضي بعد طلب “تشخيص طبي لاضطراب الهوية الجندرية”، وقصة مها ليست تذكيرًا بكيفية تغريب القوانين في الخليج للعابرين/ات جنسيًا وتجريمها لهم/ن فحسب بل تذكير بمدى رغبة السلطة في الحرص على إسكات الأصوات المعارضة ومحوها. رابط