بقلم كرار أحمد
العمل الفني: باتشورو
هذا المقال من ملف عدد ‘الزواج و الأعراس’ – هيكل العدد هنا
الأعراس من مظاهر الفرح التي غيرت أوجه التاريخ، فكيف تكون أعراس الثورات؟ يرى العديد من الناس إمكانية تحقيق التغيير من خلال الفرح، بتسخيره كوسيلة جذب وتعبير للاحتجاج، وبما أن الثورة هي حدثٌ ينتظره الثائرون بشدة تكون الأعراس والكرنفالات والمظاهر الاحتفالية شيئا لا يتجزأ منها، وعاملاً لقلب الموازين.
بحسب تعريف الفيلسوف الروسي ميخائيل باختين للكرنفال، هو انتصار الساحة العامة على المؤسسة الدينية والسلطوية، وانتصار للفرح والرقص وانقلاب المعايير والقيم المتسلطة الجدية، إن الكرنفالية-الاحتفالية هو انجاز شعبي بامتياز ضد القيم والأعراف والتقاليد القائمة، فتسعى الاحتفالات الشعبية إلى قلب المعايير واستعمال الفن والرقص لإلغاء الهرمية والتراتبية لصالح الجسد والسخرية.
يمكننا أن نرى ذلك كمثال واضح في أعراس الثورة، حيث تختلف كليا عن الأعراس المعتادة، في العراق وفي ساحة التحرير تم تنظيم الكثير من الأعراس غير التقليدية. تم حفل الزفاف أمام عموم المحتجين، وتم نقلهم بعدها بعربات “التك توك” وهي مركبات تكثر في المناطق الشعبية كرمزية لبساطة الزفاف وتثمينا لشجاعة سائقي هذه العربات ودورهم في مواجهة القمع الحكومي، وقام بعض العرسان بلبس الكمامات كرمزية اخرى للاحتجاج، وهنا يمكننا أن نرى الرمزية التي تصنعها أعراس الثورة، وإلغاء الطبقية والعادات السائدة، تداول الناس على مدار الثورة فيديوهات لنساء يطلبن الزواج من سائق “التك توك” لشجاعته في مواجهة قمع السلطة ومساعدة المتظاهرين، دون الاكتراث للفوارق الطبقية بينهم، فساحة الاحتجاج مساحة مفتوحة للكل ويجتمع بها الناس على اختلاف طبقاتهم وتوجهاتهم، ‘الكرخ والرصافة’١ والريف والمدينة والمسلم وغير المسلم، ومن ناحية اخرى تم حفل زفاف (مريم واحمد) بتأريخ ال٣٠ من يناير في ساحة التحرير، رغم ان مريم لادينية واحمد مسلم والاثنان متعايشان مع اختلافهم الديني، اوصل الزوجين رسالة لمجتمع متزمت كالمجتمع العراقي على انهم ترجموا حبهم لزواج رغم كل الضغوطات التي يواجهونها ومن وسط مكان ينشد التغيير ومنه تنطلق بوادر الامل، فهذه نقطة تحول كبيرة لدى مجتمع لايزال يرفض تزويج السنية للشيعي والعكس، ويقول (ميثم) احد المتظاهرين من بغداد الذي أقام حفل زفافه في ساحة التحرير، أن ”حفل الزواج جاء تحديا من نوع خاص ورسالة نقول فيها ‘إن الشباب العراقي لا ينحني وهو قادر على صناعة الفرح، رغم الحزن الذي خيم على الجميع بسبب احتداد المواجهات بين المتظاهرين ورجال الأمن’، إلا انهم استطاعوا أن يقلبوا المعادلة ويشيع الفرح والعزم بالإعلان عن حفل الزفاف بين متظاهر ومتظاهرة”.
يرى المحتجون أن عليهم الإصرار بحقهم في الفرح، بينما تريد السلطة أن تطعمهم المآسي والأحزان، يريدون للثورة أن تكون مجازراً دون أمجاد، الفرح والفن مقاومة والأهازيج٢ أمام الرصاص الحي هي صورة أمام النظام بأنهم لن يركدوا تحت رماد الموت، وأن قضيتهم لا تحصر في المأساة والفجيعة.
”حفل الزواج جاء تحديا من نوع خاص ورسالة نقول فيها ‘إن الشباب العراقي لا ينحني وهو قادر على صناعة الفرح، رغم الحزن الذي خيم على الجميع بسبب احتداد المواجهات بين المتظاهرين ورجال الأمن’
صيف الحب والربيع العربي
يعبر الناس عن فنونهم المختلفة من وسط الثورة، لأن تعريف الفن هو الأسلوب الأساسي في تعبير التجمعات البشرية عن أفكارها وتطلعاتها وآلامها، وأداة التعبير الأولى لأي تجمع بشري، فلماذا ننتقد الرقص والغناء في الساحات، دام أنها تجذب الناس دون نسيان الهدف الأساسي من الحضور؟ فالطاقة المندفعة والهتافات والنتاج الفني هو المتوقع لنعرف ما يريده أي حراك أو ثورة، بما فيهم ثورتنا الحالية، وثورات “الربيع العربي” التي رفعت صوت الشعوب بعد سنين من القمع وبطش السلطات، تحولت بالفعل إلى حالة تحرر شبابية من التقاليد. يعتبر جوي مكدونالد، أحد أشهر ناشطي الحركة الهيبية٣، ثورات الربيع العربي على أنها نسخة من ‘صيف الحب’٤ فيقول: “صيف الحب أصبح معبداً، الربيع العربي مرتبط به، وحركة «احتلوا وول ستريت» مرتبطة بصيف الحب”. ويرى أن (صيف الحب) هو “الوضع الحالي الجديد”، حيث بات الكل يريد ممارسة الجنس، يريد المتعة، يريد الأمل، لقد فتحنا الباب، ودلف الجميع من خلاله، وكل شيء تغيَّر بعد ذلك، وحذَّر الأجيال الجديدة من نسيان هذا المصدر، هذا التحول الذي ضرب الولايات المتحدة الأمريكية والعالم بسببه، كما ان هناك العديد من الازواج الهيبيزيين قد اعلنوا ارتباطهم في صيف الحب وعمدت بعض النساء على انجاب الاطفال في السنة ذاتها من اجل ذكرى صيف العام ١٩٦٧.
وكي نرى كيف يجب أن ننظر لفنون الثورة المتحررة بحيادية، يمكننا أن نشاهد فيلم (شواطئ آغنيس) فبعد أربع سنوات من الثورة الكوبية، ذهبت “سيدة السينما الفرنسية” آغنيس فاردا، إلى هافانا ووصفتها وهي تقول: “لقد وجدت الكوبيين غير عاديين، اشتراكيتهم مدهشة ومبهجة، عندما أكون في موسكو أشعر بأنني والسوفييت ننتمي إلى عالمين مختلفين! في كوبا كانت الأمور سهلة، شعرت بالكوبيين ثم فهمت، ثم ضحكت كثيراً، فولكلور ثورتهم، إيقاع الحياة، والدفء، واختلاط الأعراق والفنون وأصول الموسيقى”.
اعتاد الناس في مجتمعاتنا المحافظة على بناء جدران سلطوية تهيمن علينا، وعلى خطاباتنا وتعابيرنا، نتحدث بلغة لا تخالف لغة العامة في مفرداتها، نمحو العفوية ونردد العبارات التي تحظى بأكبر قدر من المقبولية الاجتماعية، وهكذا نخفي مشاعرنا ونلبس ثوب الممثل البارع أمام الجمهور المحافظ، لا نخدش الحياء العام ولا تخدشنا أحكام الناس لكلماتنا البذيئة، لكن الأمر مختلف في الثورة، المساحة الحيوية للبوح لأنفسنا بما حدث وسيحدث، ببساطتنا وتلقائيتنا ذاتها المطوية بقيود الأعراف، يربطنا شيء ما، يختلف تفسيره بيننا، كالحميمية! يقول -علي أحمد- وهو متظاهر عزم على الزواج في وسط الثورة، و السبب وراء قراره هذا يعود إلى ما أسماه “الحميمية” بين جموع المتظاهرين، هذا الشعور الذي يربط عامة الناس البسطاء والمتعبين، المتآلفين في حزنهم ومطالبهم. وبحسب شرح الفيلسوف الهندي أوشو لمفردة الحميمية، في كتابه «الحميمية، الثقة في النفس والآخر» يقول “هي تحول الآخر من وصف غريب إلى إنسان، وتعني أن تكشف نفسك أمام الغرباء” أي أن تكشف عن مشاعرك وافكارك الخفية وتنهي كل التقييدات الاجتماعية التي وضعت عليك والتي تحد من تعاملك مع الآخرين بآليات شكلتها مؤسسات السلطة عبر سنين وسنين.
أرادت السلطات دوما محو الحميمية تلك من الثورات والحراكات الشعبية، تارةً بثورات مضادة وتارةً بالقمع، فتفكيك هيكلية الحراك بثورة مضادة يتم استغلاله بواسطة عوامل دينية وطبقية واجتماعية لإجهاض الثورة، مثل تصوير الثوار على أنهم هائجون جنسياً، ومراهقون مدمنون للحفلات والرقص، وهكذا تشترك الثورة مع الجنس بعلاقة مترابطة ضد السلطة، فالدول البوليسية ترسخ الكراهية على الجنس كما تقمع الأفراد، يقول جورج أورويل الروائي الانجليزي في كتابه الشهير «1984» مثمناً القيم التحررية الجنسية، وكيف تستغلها السلطات المستبدة في بث مشاعر الكراهية والتعصب، يقول: “هذه الغريزة لا تعني توجد عالمًا خاصاً بها خارج سلطان الحزب، ومن ثَمَّ كان يتعيّن استئصالها إذا أمكن، الحرمان الجنسي يفضي بعضو الحزب إلى حالة من الهستيريا، وهو أمر مرغوب فيه حيث يمكن تحويله إلى نوع من حُمَّى الحرب، وعبادة الزعيم”. ويربط أورويل بين اللذة والبهجة التي يستشعرها الناس بعد ممارسة الجنس وقيمته “الثورية”: “عندما يمارس المرء الجنس فإنه يستنفد قواه ويستشعر نوعاً من اللذة تجعله لا يأبه بعدها بشيء، وهم لا يرغبون في ذلك، لو كان المرء مبتهجًا في قرارة نفسه فما الذي يدفعه للاهتمام بالأخ الكبير والبقية الباقية من ترهاتهم اللعينة”.
الدكتاتور يعلم أن الشعب الذي يرضى أن يضع قيودا على جسده سيرضى بوضع جنرال أو رجل دين داخل رأسه، الثورة خروجٌ على الحاكم، تخرج وأنت طليق الجسد وخارجٌ عن المجتمع، والاحتجاج الأول هو كسر قيود الجسد، لذا اعراس الثورة بكل فرحها ونشوتها، تغيير للمفاهيم الثورية وانقلابٌ على العادات والأعراف في منظومة الزواج، وفنونٌ ورغبات تنوي أن لاتنطوي بالخفاء.