بقلم ريم محمود
العمل الفني: لينا أ.
الصور المستخدمة في العمل الفني بموافقة فوتو ستوديو الأمين
هذا المقال من ملف عدد ‘الزواج و الأعراس’ – هيكل العدد هنا
حين شرعت بالعمل على هذا المقال، بدأت الذكريات لتجارب وقصص الأصدقاء تتدافع في رأسي، كما بدأت الرسائل تتزاحم في بريدي بعد أن نشرت في إحدى مجموعات الفيسبوك المغلقة الخاصة بالنساء طالبة منهن أن يقصصن عليّ تجاربهن مع الضغط المرتبط بالزواج.
الزواج، النمط الاجتماعي الوحيد المقبول للعلاقات بين الجنسين في مجتمعنا، والطريقة التي تضمن بقاء المجتمع وتماسكه. “فالزواج سنة الكون” مثل معروف جداً في مجتمعات المنطقة، يظهر لنا مدى أهمية الزواج وتقديسه لدينا، مما يشكل ضغطاً هائلاً على الشباب والشابات في اختياراتهم/ن المهنية والعاطفية والشخصية.
ومما لا شك فيه أن المجتمع يحول الزواج لهاجس في حياة النساء أكثر منه في حياة الرجال، فمنذ طفولتهن يصور لهن المجتمع الزواج على أنه الدلالة على قيمتهن في الحياة والضمانة الوحيدة لهن. وبالنظر لواقع أفراد مجتمع الميم في منطقتنا، نجد أن الزواج يشكل عاملاً إضافياً للضغط الذي يتعرضون له إضافةً إلى كل الضغوطات الأخرى التي يتعرضون لها.
الزواج والحياة المهنية
لا تتذكر لما متى بدأت تشعر بالضغط المحيط بها لكي تتزوج، لعل ذلك بدأ منذ أن تخرجت من الجامعة من كلية الإعلام في عام 2010. “كان دوماً هنالك تعليقات تخص موضوع الزواج، دعوات تحبب كل امرأة أو رجل في عائلتنا بالنصيب الطيب القريب. منذ أن تخرجت من الجامعة وأنا مدركة لشيء واحد فقط، هو طموحي في استكشاف العالم. رغبتي بالسفر والتعرف على ثقافات الشعوب الأخرى. الأمر الذي كان يثير حفيظة وغضب والدتي. فهي –كسائر أفراد المجتمع- ترى أن الطموح المهني أو الشخصي أمر لا يستحق أن تضحي المرأة بالزواج وإنجاب الأطفال من أجله”. أخبرتني لما.
تعيش لما منذ عامين تقريباً في روسيا، وما تزال والدتها في كل مكالمة بينهما تعبر لها عن حسرتها على ابنتها ذات ال34 عام التي لم تتزوج بعد، والتي قد لا تجد من يتقبل طموحها وحياتها المليئة بالمغامرات وسفرها للخارج. فلا تخلو حياة أي امرأة من الضغوطات المتعلقة بالزواج، فنحن كنساء، نكبر على أن حياتنا كلها تتمحور وتدور في فلك هدف واحد ألا وهو الزواج، وعلى أن الزواج هو الغاية التي علينا أن نلهث خلفها.
ليس من الصعب على كل امرأة أن تدرك أن المجتمع يراها سلعة في سوق الزواج، سلعة قد ترتفع أو تنخفض قيمتها تبعاً لجمالها وسلوكها ومدى انصياعها لمعايير المجتمع. وفي الكثير من الأحيان تكون المرأة على قناعة تامة بأهمية حياتها المهنية أو حتى عدم استعدادها النفسي لتجربة الزواج، ولكن الضغوطات من حولها سرعان ما تتحول لكوابيس تلاحقها أو بأحسن الأحوال تحرمها من لذة نجاحاتها المهنية والشخصية، وتشعرها دوماً بأنها على خطأ وأنها ستندم فيما بعد.
“أدرس حالياً في كلية الطب البشري في السنة الثالثة، سأتخرج من الجامعة وفترة الاختصاص بعمر ال27 تقريباً، وأخطط للزواج بعد دخول الحياة المهنية بشكل جدي يضمن لي مستوى معيشي مريح أو عالأقل كافٍ، غالبية صديقاتي تزوجن أو خطبن وبعضهن أصبحن أمهات، بدأ الموضوع يتحول لهوس بشكل غريب بالنسبة لي، فمن جهة أرغب بتكوين أسرة دون أن أكون مضطرة لتقديم تنازلات متعلقة بطموحي المهني، ومن جهة أخرى هنالك الضغوطات التي يمطرني بها أفراد عائلتي، والعبارات المازحة الجادة عن إيجابيات الزواج والحمل في سن مبكر، وبأن النساء هن المتضرر الأكبر من ملاحقة الحياة المهنية وإضاعة سنوات عليها، فالرجل لا يعيبه عمره كما المرأة.” أضافت ليلى ذات ال21 عاماً.
“رفض أبي وأخي الأكبر دخولي لاستقبال ضيوف قدموا بهدف طلب أختي، لم يوضحا لي السبب، ولكنها لم تكن المرة الأولى التي يشعرني بها أفراد عائلتي بالذنب لكوني قد أنفر العرسان من حول أختي الوحيدة التي تجاوزت الثلاثين من العمر،”
الزواج وصورة الجسد
تتمحور قيمة النساء في مجتمعاتنا حول الزواج والإنجاب، وهذا ما ينعكس حقيقة على حياتهن بشكل عملي، فما أن تبدأ علامات البلوغ بالظهور على الفتاة، حتى تجد أن الجمال بدأ يتحول إلى فضيلتها الأولى التي عليها تحقيقها أو حتى السعي خلفها. إهمال المرأة لشكلها أو عدم وجود الجمال (ذلك الذي يحدده المجتمع الأبوي) كأولوية في قائمة اهتماماتها، سيترجم على أنه لا مبالاة بالزواج أو السعي لجذب رجل ليتقدم لخطبتها ويتزوج منها، وسيجعلها عرضة للتنظير والنصح من محيطها.
“في السنوات الخمس الأخيرة، بدأ وزني بالإزدياد بشكل ملحوظ حتى قارب الثمانين كيلو غرام. وبدأت الضغوطات من حولي لكي أنقص وزني، فبحسب عائلتي وأصدقائي، لن أجد رجلاً يقبل الزواج مني وأنا بهذا الوزن. الضغط الذي يحاصرني بهدف إنقاص وزني، بدأ يتحول لضغط مضاعف في السنتين الأخيرتين، فبعد أن كان الخوف على صحتي هو الدافع الأساسي لتشجيعهم لي كي أنقص وزني، أصبح هذا الدافع يتخذ شكلاً آخر ألا وهو العثور على رجل يرغب بالزواج مني” حدثتني سمر ذات ال27 عاماً عن تجربتها.
أكاد أجزم أن أغلبنا كنساء عشنا منذ طفولتنا هواجس البقاء وحيدات، غير مرغوبات، وغير مقبولات في سوق الزواج. تقبع تلك الصورة المظلمة لنساء عجائز يحكن الصوف في زاوية إحدى دور العجزة كوحش يطاردنا منذ نعومة أظفارنا، الصورة التي صورها المجتمع على أنها الكارثة الوحيدة والأكبر التي قد تلحق بالمرأة.
يتخذ هذا الوحش أشكالا متعددة، ترافقنا سنوات حياتنا، من هاجس فقدان غشاء البكارة، صك إثبات عذريتنا الوحيد. والخوف من ذلك الفقدان الذي سيحول حياتنا إلى جحيم عدم المقدرة على الزواج. إلى هاجس عدم ملائمة معايير الجمال الذي سيبقينا ضمن آخر خيارات فارس الأحلام المنتظر، إلى الخوف من ملاحقة أحلامنا وطموحاتنا المهنية. غول القطار الذي سيفوتنا إذا ما تجرأنا على جعل أمر غير الزواج قبلتنا وبوصلة حياتنا.
مجتمع الميم والزواج
وفي الحديث عن الضغط الواقع على النساء للزواج وإنجاب الأطفال وإكمال ما يفترض أنه سنة الكون في نظر مجتمعنا، لا يمكننا أن نتجاهل معاناة أفراد مجتمع الميم من الضغوطات ذاتها. “يكاد لا يمر أسبوع دون أن تطرح والدتي موضوع الزواج والخطبة أمامي، تقول لي: سأخطب لك ست البنات، أريد أن أفرح بك وبأحفادي يا حبيبي، فأنت ابني الوحيد وأخاف أن يدركني الموت دون أن أحتضن أولادك بين ذراعيّ” صديقي وسام 33 عام محدثاً إياي عن الضغوطات التي يتعرض لها فيما يتعلق بالزواج والإنجاب كونه فرد من أفراد مجتمع الميم، ولم يتمكن بالتصريح عن ميوله الجنسية إلا لقلة قليلة من الأصدقاء المقربين.
“لا يمكنني أن أخبر والدتي بميولي، ولا يمكنني أن أستمر باختلاق الأعذار لعزوفي عن الزواج. أجبرتني والدتي في العديد من المرات على زيارة بيوت أقاربنا لرؤية بناتهم. كان أمراً في غاية الغرابة، وكانت تلك الزيارات من أكثر اللحظات التي شعرت بها بصعوبة واستحالة محاولاتي لملائمة المجتمع ومدى الضغط الهائل الذي يقع على كاهلي لإخفاء هويتي وحقيقتي.” يضيف وسام.
وفي السياق ذاته، غول العنوسة وأن تلفظنا مؤسسات الزواج القابع في أذهاننا منذ بدء بلوغنا. يحدثني هاشم، وهو شاب في ال26 والأخ الأصغر في عائلة مؤلفة من 4 أخوة، عن الضغوطات التي يتعرض لها بسبب تعبيراته الجندرية غير المعيارية، وظهوره بمظهر لا يلبي المعايير الصارمة المفروضة على الرجال في مجتمعنا الذكوري المعياري المغايرة، والمتعلقة بطريقة كلامهم ولباسهم والتعبير عن مشاعرهم.
“في بداية العام الحالي، رفض أبي وأخي الأكبر دخولي لاستقبال ضيوف قدموا بهدف طلب أختي، لم يوضحا لي السبب، ولكنها لم تكن المرة الأولى التي يشعرني بها أفراد عائلتي بالذنب لكوني قد أنفر العرسان من حول أختي الوحيدة التي تجاوزت الثلاثين من العمر، والتي أصبح تزويجها الشغل الشاغل للعائلة والهم الذي يؤرق والدي ووالدتي”.
الخاتمة
“الزواج سنة الحياة والهدف الأسمى لها” تلك المعادلة المفروضة من قبل المجتمع والتي تشكل ضغطاً هائلاً على جيل الشباب فيه. حيث يشكل الزواج الغيري مصدر قلق إضافي للكثير من أفراد مجتمع الميم، الذين يعانون من محاولاتهم المستمرة لإخفاء هويتهم في مجتمعات ستنكر عليهم حقهم في امتلاك تلك الهوية. تقديم الزواج الغيري كمؤسسة الحياة الوحيدة، وكهدف الحياة الأسمى وكمحصلة لوجودنا يشكل عامل يزيد من معاناة أفراد مجتمع الميم في مجتمعاتنا الذكورية المعيارية المغايرة.
وبالنظر لتجارب النساء في مجتمعنا، نجد أن الزواج يتخذ حيزاً أكبر في حياتهن، فمنذ بلوغ الفتاة يضخ من حولها عشرات الرسائل عن مدى أهمية الزواج لها، لدرجة أن المرأة تشعر أن حياتها وقيمتها تتمحور حول الزواج فقط. يتخذ الزواج في مجتمعنا أداةً أخرى لإخضاع النساء والسيطرة على طموحهن المهني والشخصي، أداة تستخدم لخنق أي امرأة تتجرأ على أن تجد في نفسها أكثر من جسد للجنس والإنجاب، أو تتجاسر على أن تضع الزواج والإنجاب في ذيل قائمة أولوياتها، وسوط قمع يستخدمه المجتمع لإجبار النساء على البقاء في مؤسسات زواج عنيفة وغير آمنة ومبنية على حساب صحتهن النفسية والجسدية. غول ولحسن الحظ، بدأ يفقد سطوته علينا كنساء، وبدأت تظهر لنا الحياة واضحة، بعيدة عن عدسات النظارة الذكورية التي توضع قسراً على عيوننا منذ ولادتنا.