بقلم: آمنة تراس
تحرير مهى محمد
تصوير: عمر شاع
الشخصيات المصورة: جود و مار
اخراج: خالد عبد الهادي
مصادر تصوير ‘سلمى و لميس’ – هنا
تساؤلات حول مفهوم الشرف – هنا
هذا الملف بالشراكة بين ماي كالي وموقع جيم – Jeem.me
حين شرعت في الكتابة حول موضوع الشرف وجدت نفسي أمام حقل مفاهيمي محاصر بشيء من القدسية وشيء من الاختزال في ذات الوقت. ولطالما أخذني التردد من الانخراط الساذج في الحرب (الحداثية جدًا) على “جرائم الشرف” (الإرهابية جدًا) كلما انتبهت للأخطار المحدقة بذلك: الأول يرتبط بفصل جرائم قتل النساء في دول غرب وجنوب آسيا وشمال أفريقيا عن النسق البنيوي المغذي للعنف ضد النساء، والثاني يتعلق بتكريس تصور ذكوري ميزوجيني محض للشرف مع إلغاء تمثّلات النساء حوله، والثالث خطر اختزال مفهوم الشرف عند ربطه بجرائم القتل وبالإسلام. لذلك سيكون مقالي هذا، محاولة لإعادة امتلاك الحديث حول الشرف والجسد كامرأة شمال أفريقية، وذلك عبر تفكيك أيديولوجية الشرف بصيغتها المهيمنة وتحليل تقاطعها التاريخي مع ميكنزمات التحكّم الفعلي والرمزي بالأجساد ووظائفها وفضاءاتها.
قبل أن أشرع في النقاش سأقدم هنا أهم المفاهيم المعتمدة في هذا المقال:
جرائم الشرف: يحيل هذا المصطلح على جرائم قتل النساء المدفوعة بفكرة الدفاع عن شرف الرجال في المجتمعات التي تربط الشرف “بالطهرانية” الجنسانية للنساء. حيث تمثل جنسانية النساء عنوان شرف الأب أو الزوج أو الأخ وعبرهم شرف الأسرة والقبيلة. يعرف هذا المصطلح عدة انتقادات من طرف تيارات نسوية من قبيل رفضها إعطاء جرائم العنف ضد النساء عنوانًا يتماهى مع الشرعية التي تعطيها فلسفة الشرف الميزوجينية للعنف ضد النساء، والتي تنطلق من اعتبار جنسانية النساء ملكًا لغيرهن.
أيديولوجية الشرف: نسق المعتقدات والقواعد الفلسفية التي تحكم السلوكيات والعلاقات المبنية على مفهوم الشرف كقيمة تحدد انتماء الأفراد لمجموعة اجتماعية أو قبيلة معينة. ينظر إلى هيمنة أيديولوجية الشرف في المجتمعات الذكورية كعائق أمام سياسات الإنصاف وعدالة الجندر، حيث تغذي هذه الأيديولوجية واقع التمييز على أساس الجنس بإضفاء الشرعية على العنف ضد النساء المدفوع بوازع حماية الشرف والدفاع عن سمعة المجموعات التي تنتمي إليها النساء المعنفات.
الاستشراق: يحيل استعمال هذا المفهوم في هذا النص على نمط دراسة وتحليل الظواهر الاجتماعية في المجتمعات الشرقية من قبل بعثات المفكرين الغربيين بغرض إنتاج معرفة حول هذه المجتمعات تجيب على التطلعات التحكمية والمصالح الجيوسياسية للقوى الاستعمارية. يعتبر إدوارد سعيد أهم من نظّر لمفهوم الاستشراق، ومن بين انتقاداته المنهجية كون الدراسات الاستشراقية تنطلق من اعتبار الشرق المقابل السلبي للغرب الحداثي والمتقدم وكذا اعتمادها مقاربات تحليل ضيقة واختزالية.
التعددية الجندرية: يعبّر هذا المفهوم على رؤية للجندر تتجاوز الثنائية القطبية: جنس بيولوجي مقابل جندر أي ذكر/أنثى مقابل رجل/امرأة معتبرة أن من بين مميزات الجندر الأساسية، التعددية والمرونة. تنطلق فكرة التعددية الجندرية من اعتبار الجندر كهوية منفصلة عن الجنس البيولوجي الذي فرضت عليه عبر البناء الاجتماعي، حيث تستوعب فكرة التعددية الجندرية واقع إمكانية أن يعيش الأشخاص تجربة عبور من هوية جندرية إلى أخرى وإمكانية عدم الانتماء إلى أي جندر أو عدم ثنائية الجندر.
الشرف كقيمة اجتماعية
على عكس التصور الأورومركزي السائد حول الشرف كمفهوم إشكالي مرتبط فقط بالمجتمعات الإسلامية الشرق أوسطية التي يقتل فيها الرجال النساء بشكل “بربري”، فإن أيديولوجية الشرف قد حكمت مجموعة من السلوكيات في العديد من المجتمعات بشكل متنوع وخاضع لقانون التغيير والتطور. اعتمدت في ذلك على رسم مجموعة من الحدود: عموديًا لتُميّز بين أفراد الطبقات الشريفة وباقي الناس، وأفقيًا، لرسم حدود الانتماء للجماعات عبر إخضاع الأفراد لقواعد متعارف عليها تعطيهم/ن حق التمتّع بالاحترامية1. فقد عرفت المجتمعات الأوروبية ما قبل الحداثة -نفسها- حضورًا قويًا لمفهوم الشرف، حيث كانت تقتضي الفروسية والنبل من الرجال القتل لاسترجاع الكرامة. كما أن “الشرف” لم يختفِ كقيمة تحكم انتماء الفرد للمجموعة في أوروبا الحديثة سواء من طرف الحركات الوطنية أو العنصرية التي تستعمل “الإخلال بعقد الشرف” كعلّة موجبة للقتل2. أما في القبائل الأمازيغيّة فقد ارتبطت “الحرمة” أو “النيف” (مرادف لتحدي الشرف3 بالأمازيغية) بمعايير عند الرجال في مدى قدرتهم على حماية الأسرة والسيادة والرد على الإهانة والاعتداء. بنفس القدر يُعتبر الكرم والنزاهة والذكاء والوفاء بالوعد من مبادئ المعاملات التي يجب أن يتشبث بها الفرد في علاقاته الشخصية كمعايير الشرف الذكوري، فيما تربط أيديولوجية الشرف بصيغتها المهيمنة الذكورية شرف النساء بالتفاني في الاعتناء بالأبناء والبنات والعذرية الجنسية قبل الزواج و”العفّة” بعده4.
شرف النساء
ليست الطهرانية الجنسية وحدها هي المحدد –رغم مركزيتها في التمثّل النسائي “للحرمة”- لأحقيّة النساء باحترامهن وتشريفهن في المجتمعات الأمازيغية القروية بشمال أفريقيا، فهن يعطين أهمية كبيرة للصبر والمساندة الفعّالة للأسرة والقبيلة، خصوصّا في مراحل الأزمات الاقتصادية والسياسية. أذكر على سبيل المثال تفانيهنّ في تحريض اليافعين والرجال على قتال المستعمر عبر وصم المتخلّفين أو المنسحبين من المحاربين بالحنّاء على وجوههم وملابسهم كرمز للعار، ثم المشاركة في القتال ردًا على استشهاد الأقرباء (مثلا عدجو موح5)، والأدوار الاستراتيجية الحربية التي لعبتها العديد من الشخصيات التاريخية النسوية الأمازيغية، ومشاركتهن ما بعد الاستعمار في ديناميكيات الدفاع عن الأرض والبيئة دفاعًا عن شرفهن (نموذج “حركة على درب 96”6). حين تعبّر تلك النساء عن الدفاع عن شرفهنّ في ذلك السياق فإنهنّ يساهمن بذلك في بناء فلسفة الشرف كقيمة اجتماعية محوريّة حاملة لأبعاد قيميّة سلوكية متعددة من بينها، الارتباط الوجداني والهويّاتي بالأرض وكذا الدور الحمائي والدفاعي للنساء على السيادة الفعلية للمجموعة كامتداد طبيعي لوظيفتهنّ الاجتماعية التي تتمثل في التفاني في الاعتناء بالأسرة والبيئة وتدبير الموارد المائية والطبية والغذائية.
الشرف الاستشراقي
هذا الطابع الإيجابي والفاعلي التضامني الذي يُميّز المكانة الشرفية للنساء في الدول المستعمرة هو ما تغفل عنه أغلب الكتابات الأنثروبولوجية ما قبل الاستعمارية والاستعمارية. فهذه الأخيرة تختزل قواعد الشرف في المجتمعات الشمال أفريقية وفي الشرق الأوسط في نسق ثقافي، يتّسم بتقسيم ثنائي لنظم التمثّلات والقيم وفق مبدأين متكاملين ومتعارضين، حيث يربط العار بجنسانية النساء، والتحدي والفضيلة بأدوار البطولة لدى الرجال7، وفق فلسفة تحيل على المؤنث السلبي والمستلَب والمجرّد من أي قدرة على فرض إسهامه في إنتاج علاقات القوة خارج منطق الاستلاب الجنساني والخضوع لحماية الرجل المهيمن. يتأسس هذا التحليل على قراءة ثنائية قطبية لعلاقات الجندر، علاوة على إلغائه لكل الديناميكيات والاستراتيجات التي تعتمدها النساء والتعدديات الجندرية لفرض انتماء إيجابي للمجتمع. هكذا يسقط الأنثروبولوجيون الاستشراقيون في مغبة إسكات الصوت الآتي من النساء حول تعريفهن للشرف، حيث يفضلون الاحتفاظ بالصيغة الميزوجينية حول شرفهن فقط، كما سبق وأُسكِت ذكاء “شهرزاد” في الصيغة الاستشراقية لألف ليلة وليلة وإلغاء رسالتها السياسية8. لا يعني ذلك أن أيديولوجية الشرف الميزوجينية هي محض اختراع من طرفهم، فهي تظل واقعًا تاريخيًا ما زالت تعاني منه النساء في بعض المجتمعات، لكنها لا تمثل الواقع كله، فهن لا يتعاملن مع هذا الوضع بسلبية بل يمتلكن استراتيجياتهن الخاصة لفرض فلسفة بديلة لأيديولوجية الشرف الميزوجينية.
جذور مركزية الجسد الجنساني
قد لا تكون مركزية الجسد الجنساني محددًا وحيدًا أو ثابتًا في أيديولوجيات الشرف الميزوجينية، لكنها، مع ذلك، محدد أساسي ومشترك بين أغلبها. فقد استُعمل تاريخيًا في المجتمعات المدينية لتحديد تقسيم طبقي رمزي بين النساء: تعتبر جيردا لرنر أنه مع ازدهار “الدول المدن” والتنافس العسكري في بلاد الرافدين –خلال بضع آلاف السنين قبل الميلاد- بدأت تتأسس مجتمعات طبقية يُشكّل فيها العسكر ونخبة المعابدِ الطبقة التي تملك. أضحت جنسانية النساء في هذا السياق تحيل أساسًا على وظيفتين: ديموغرافية -الرفع من عدد السكان-، واقتصادية -إنتاج قوة العمل-. استدعى ذلك، مأسسة وتقنين الأسرة الأبوية لتنظيم الانتقال الأبيسي (الأبوي) للثروة والنسب. في هذا السياق، حيث أضحت جنسانية النساء أول ملكية تتنافس عليها القبائل –ملكية أب المرأة ثم زوجها-، أصبحت “عذرية النساء” ملكية ذات قيمة اقتصادية قابلة للتداول، مما كرّس التمايز الصارم بين النساء المحترمات (الزوجات) صاحبات جنسانية مملوكة حصريًا لرجل واحد، والنساء صاحبات جنسانية ولوجيّة لأي رجل. تجدر الإشارة إلى أن هناك من يعلّل ازدهار الدعارة في تلك الحقبة كنشاط اقتصادي، بكونه إجابة عن تنامي إقصاء النساء من أغلب الطبقات المهنية في المجتمع المديني9. تكريسًا لهذا التمييز الاجتماعي المبرر بأيديولوجية الشرف، عملت المجتمعات المدينية على بلورة آليات محدّدة للتحكم في الجسد النسائي من بينها فصل الفضاء.
الجسد المديني والفضاء
في وصف فصل فضاء النساء عن غرباء الفضاء العام: تقول فاطمة مرنيسي في وصفها للحريم (الفضاء) أنه قد قيل لها أن شرف أبيها وخالها رهينٌ بهذا الفصل، حيث كل خروج ودخول يخضع لمفاوضات جد معقدة10. هذا الفصل لا يحدد حركات النساء فقط بل الرجال أساسًا، ففي الحريم –ذلك الفضاء المغلق (نسبيًا)، تمارس النساء سلطة مضادة لمن يملكون حرية التجول خارجًا، فلا يسمح لهم إلا بصالون الرجال ويمنعون من ولوج الأسطح ذلك المكان العاتي الذي يتواصل فيه حريم مع حريم آخر وتقرأ فيه الطلاسيم وأسرار أخرى لا تعرفها إلا السماء والنساء. لفهم ارتباط الشرف بمفهوم الحريم لا يجب أبدًا إسقاط الحمولة السياسية للفضاء العام التي تختلف حسب نمط تنظيم الحياة الاجتماعية ونمط الأدوار النسائية، فحريم فاطمة مرنيسي وصف في سياق عسكرة مدينة فاس في عهد الاستعمار لذلك تجدر الإشارة إلى أن حريم المدينة، حينها، يختلف عن حريم الضيعة وهذا الأخير أقل حصارًا لأجساد النساء وأصواتهن وخطره يكمن في كون معالمه أقل وضوحًا فلا وجود فيه لسور عال ولا لتواجد رسمي مستمر للعسكر المستعمر وهو شاسع ممتد بامتداد أنشطة النساء الفلاحية والمعيشية، حتى إيقاع التواصل مع الرجال الغرباء يحدّه الزمان أكثر من المكان.
أجساد النساء وفقه الرجال
ارتبط تقنين تواجد الجسد النسائي في الفضاء العام بفترات أزمات سياسية وعسكرية. لفهم الجدل العنيف حول الحجاب مثلا في المجتمعات الإسلامية، ما بعد الحداثة، يجب استحضار جسد النساء كتجسيد رمزي لهوية المجموعة، فغالبًا ما كان الإلحاح على احتجاز النساء كسبيل لحماية المجموعة من خطر الغرب عبر فرض الحجاب11 وعبر إصدار آراء وفتاوى فقهية تؤول إلى اعتبار خروج النساء من البيوت مكروهًا حتى من أجل الصلاة. هذه التقليد الميزوجيني الفقهي في مؤسسات الدين المنظم يتغذّى بتراكم وضعيات الاضطهاد الاقتصادي والاستبداد السياسي بشكل لا يسعني الحديث عنه الآن، ويستمر في فرض هيمنته وسط تغييب المقاربات النسائية الإصلاحية بالموازاة مع نسق خطابي اتهامي واستعلائي يفرض رؤية مهيمنة لعلاقات جندر حداثوية-أورومركزية مما يعزز خلق جيوب مقاومة لأي محاولة للخروج عن “الفقه المنحبس12“.
الأجساد المجندرة وجريمة التجريم
في ظل تنظيمات اجتماعية بطريركية معاصرة، تهيمن عليها فلسفة بناء اجتماعي أساسها النزوع للتحكم والخوف من الانفلات، تبلورت ميكانيزمات لتجريم السلوكيات المخلّة بنمط العلاقات الاجتماعية القائم. من بين ميكانيزمات التجريم نجد مؤسسات تشرع للعقاب بوازع الأمن الأخلاقي والديني -كما أُشير إليه في الفقرة السابقة. فيما يخص التحكم بالأجساد والجنسانيات فإن عملية التجريم تنطوي أيضًا على رهاب واعٍ بخطر الأجساد الحاملة لرمز هويّاتي غير معياري على النسق المهيمن والحدود التي وضعها. حين تجرم هذه المؤسسات -وهي الممثلة العليا لفلسفة الحق العام- العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج والمثلية في نص قانوني صريح، مثلا، فإنها تعتمد ميكانزمات متخفيّة لتجريم العبور الجندري عن طريق عدم الاعتراف أولا، ثم عن طريق حصار الأجساد العابرة في هوياتها التي فُرضت عليها، فتصبح كل بنيات التعايش الاجتماعي جدرانًا منيعة أمامها تعزلها عن الحياة الاجتماعية. إن ميكانزمات التجريم الهيكلية سواء المباشرة أو غير المباشرة رغم استفرادها كسلطة بعملية العقاب، لا مفر لها من التعايش مع جرائم العقاب خارج المؤسسات، فتجدها تمتع المتورّطين في جرائم العنف الميزوجينية والمدفوعة بالكراهية بشروط التخفيف إذا برر المعتدي ذلك الفعل الجرمي بالدفاع عن شرفه.
إن ميكانيزمات التحكم بالجسد المذكورة في هذا المقال سواء تلك المبنية على نُظم معتقدات دينية أو تصورات قيمية ذكورية للشرف أو ميكانيزمات الهيمنة الثقافية والحضارية أو كلها معًا، تتكثف لتعطينا واقع اضطهادات مركبة ومتقاطعة. طالما شكلت أجساد النساء وكل الأجساد المجندرة – في هذا الواقع – ساحة نزال وصراع سياسي بين مختلف القوى الأبوية المهيمنة. لذلك، لا مناص لنا كنساء وكتعدديات جندرية من الانخراط في ديناميكيات الصراع هذه، أولا من أجل استرجاع فعلي للسيادة على أجسادنا، وثانيًا لمقاومة استعمال مفهوم الشرف لخندقة جرائم العنف ضد النساء والنساء العابرات في نسق خطابي مموّه فلا شرف لنا في الجريمة، وثالثًا، لمحاربة كل صناعات العار التي تتغذى على أيديولوجية الشرف الميزوجيني كالصناعة الطبية والإستيتقية (التجميل) التي تذر أموالا طائلة من سوق البكارات الاصطناعية وكذا المركب الصناعي السجني الذي يبدع في التعذيب الجنسي وتجريم الأجساد المستضعفة، وسياسات عسكرة أراضينا حيث أصبحت الاغتصابات الجماعية وقتل النساء من معايير الانتصار في حروب الإهانة الامبريالية.