بقلم فريق سينمجي
الصورة من سينمجي
تمتاز السينما المصرية بكونها المنتج الأول والأكبر للأفلام في الوطن العربي، كما أنها كانت السباقة في صناعة الأفلام التي ولدت في زمن يواكب ولادة الأفلام في العالم، فبنظرة سريعة على تاريخ السينما المصرية، نجد بأنها خطت خطوتها الأولى بإنتاج الأفلام الصامتة، لتنمو وتزدهر بالتزامن مع نظرائها حول العالم مارة بكل مراحل تطور الفن السابع التي مروا بها (الفنون الستة السابقة للفن السابع حسب تصنيف الإغريق هي الموسيقى وفن العمارة والنحت والرقص والشعر والرسم).
وعلى الرغم من عراقة السينما المصرية وقدمها، إلا أنني أعتبر أنها لم تبلغ أوجها إلا في أربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم، وتحديداً بعد الحرب العالمية الثانية، عندما شهد إنتاج الأفلام قفزة كمية من 16 فيلماً في عام 1944 إلى 67 فيلماً عام 1946، وكانت تلك أيضاً بداية كبار نجوم السينما المصرية من منتجين/ات ومخرجين/ات وممثلين/ات، والذين حفروا أسمائهم بحروف من ذهب لتبقى حاضرة حتى يومنا هذا. أما عن النوعية، فربما تميزت أفلام تلك المرحلة بأنها ذات صبغة استعراضية رومانسية، مما أتاح للعديد من نجوم الغناء بأن يكونوا في مقدمة الأسماء التي تحتل أدوار البطولة، إلا أن ذلك لم يمنع وجود أفلام شكلت علامات فارقة في تاريخ السينما المصرية بصبغات مختلفة كالدراما والكوميديا وغيرها، ولم تخلُ من رسائل ومعانٍ هادفة تسلط الضوء على قضايا تهم المجتمع المصري وتسعى للتغيير نحو الأفضل من خلال طرح أفكارها بشكل يتماشى مع قصة الفيلم.
ومن تلك الأفلام التي نالت إعجابي بنفس الدرجة التي أثارت فيها استيائي فيلم ‘الآنسة حنفي’، وهو الفيلم الكوميدي الأبيض والأسود والذي أنتج عام 1954 وضم نخبة من نجوم الكوميديا والفن في تلك الفترة وعلى رأسهم النجم الكوميدي الغني عن التعريف إسماعيل ياسين ومن إخراج فطين عبدالوهاب، أحد كبار مخرجي الأفلام في عصره، أما العقل المدبر وراء هذا العمل فهو مؤلفه الصحفي والشاعر والكاتب جليل البنداري، والذي آمن به لدرجة أنه اختار أن يكون منتجاً للفيلم، وربما لم يكن خياراً، وإنما بسبب رفض المنتجين العمل على إنتاج قصة حساسة ومثيرة للجدل، قصة تحول رجل إلى إمرأة.
يروي الفيلم قصة حنفي “إسماعيل يس”، الرجل الذكوري المستبد الذي يرى أن المرأة لا حق لها بالتعليم والتي يجب أن تبقى حبيسة المنزل لدرجة منعها من النظر من النافذة، بينما يعطي لنفسه كافة الحقوق والتي تصل إلى السهر في الكباريهات والاستمتاع بملذات الحياة المختلفة. نموذج واقعي يمثل الغالبية العظمى من الرجال في تلك الفترة وحتى في زمننا الحالي. ولكن، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن عندما يشعر حنفي بألم في معدته ليلة زفافه من إبنة زوجة أبيه نواعم “ماجدة” ليتم نقله إلى المستشفى لينقلب في ليلة وضحاها من ذكر إلى أنثى، من حنفي إلى فيفي.
أو لعل الرياح قد أتت بما اشتهته سفن فيفي! قبل الحادثة، يظهر والد حنفي مع ابنه في مشهد يبدي فيه رغبته بتزويجه، فيأتي رد حنفي “أتجوز؟ يا نهار اسود، أتجوز ايه؟ اتجوز وحدة ست؟”، وفي مشهد آخر بعد تحول حنفي لفيفي، تقول نواعم لفيفي “أيام ما كنتي راجل” تقاطعها فيفي وترد عليها بعصبية “اخرسي، أنا يا بت كنت راجل؟ دنا طول عمري مزمزيل”.
هل في ما سبق إشارة إلى أنها كانت تشعر بداخلها أنها إمرأة طوال عمرها؟ هل كانت تمثل دور الرجولة أمام مجتمع يفرض عليها ذلك؟ هل في رفض حنفي الزواج من امرأة ورفض فيفي اعتبارها كانت رجلاً تصريح من المؤلف بأن حنفي/فيفي هي حالة ترانس؟ أو حالة انترسكس كون القصة أظهرت أن التحول جاء نتيجة لمشكلة عضوية، لا أعلم حقاً إذا ما كان البنداري يقصد هذه الحالة أو تلك.
ولكن سواء قصد إحداهما أو لم يقصد، فقد أساء لكلتا الحالتين من خلال المواقف الساخرة التي وظف الشخصية لأدائها، فلم يظهر لي سوى محاولة السخرية من حالة كل من ت/ينتمي لفئتي الترانس والإنترسكس، وكل ذلك بهدف إضحاك الجماهير، ناهيك عن الأخطاء الطبية والعلمية التي لن يلق البنداري بالاً للبحث فيها على الرغم من أنه في الأساس كان قد استوحى قصة الفيلم من حادثة حقيقية وقعت في مصر عام 1947 والتي انتهت بتحول فاطمة إلى علي.
في كلا المشهدين نرى تقبل فكرة التحول من جنس لآخر، وهو أمرٌ رائع ويحسب للبنداري حتى وإن كان الهدف من ذلك الوصول لفكرة عدم وجود فرق بين الرجل والمرأة والتأكيد على حق المرأة بالتعليم.
أنا شخصياً، وبصفتي امرأة ترانس، لم أشعر بأن شخصية حنفي/فيفي تمثلني أو تمثل حالتي، بل على العكس، شعرت بالضيق كلما سمعت ضحكات المشاهدين على مشهد يصف شعوراً عانيت منه طوال حياتي، أو على مشهد يمثل رغبةً لطالما تمنيتها وحرمت منها مثل القدرة على الحمل والإنجاب. كان البنداري وكل من شارك في هذا العمل ظالماً بتوظيفه الكوميديا للسخرية من حالات عانت ولا زالت تعاني وتناضل وتقاتل للحصول على أبسط حقوقها، الحق بالحياة.
كان ذلك ما أثار استيائي، فما الذي نال إعجابي لدرجة تستحق الذكر؟ مرة أخرى، ليس سوى صديقنا البنداري، فعلى الرغم من إساءة الفيلم للترانس عموماً ولي أنا بشكل خاص، إلا أنني لا يمكنني إنكار عبقرية البنداري، فأن تنتج فيلماً كوميدياً بهذه الصورة سيجعله محبباً وقريباً من قلوب المشاهدين، وليس هناك أفضل من أن تستغل هذا التواصل مع المشاهد لنشر أفكار قد تواجه الرفض أو الإنتقاد على أقل تقدير اذا ما تم طرحها بطريقة مختلفة.
لكي أقرب لكم الصورة، أنا اذا شاهدت فيلماً وأحببته بشدة (وينطبق هذا على قراءة كتاب أو مقال او مشاهدة برنامج ما)، فإن أي أفكار مطروحة داخل هذا الفيلم ستلقى قبولاً لدي بسهولة أكبر من أن يتم طرحها علي بطريقة التلقين او النقاش على سبيل المثال، لذلك سأجد نفسي أكثر تقبلاً لأفكار جديدة لمجرد أن الفيلم دخل قلبي من الباب الواسع، وماذا أفضل من الكوميديا لتدخل القلب؟ أنا بطبيعتي عاطفية، أتعلق بشيء ما بشدة إذا ما أحسست بذلك الشعور الغريب في القلب وأنا أتابعه، مما يسهل من تقبلي للأفكار المطروحة داخل الفيلم، وهنا كانت عبقرية البنداري عندما استغل عاطفية الجمهور المستهدف ووظف الكوميديا لطرح أفكار تهدف إلى إحداث تغيير في المجتمع المصري على صعيد حقوق المرأة ونبذ الذكورية. نعم، الآنسة حنفي فيلم نسوي.
استطاع الكاتب من خلال هذا العمل أن يوصل أفكاره النسوية ساعياً إلى إنصاف المرأة وتحريرها ضمن حدود المعقول في المجتمع المصري (والعربي بشكل عام)، فرأينا التحول الفكري الكبير الذي حصل لفيفي عندما أصبحت تعارض القمع ذاته الذي كانت تمارسه عندما كانت حنفي، حتى أنها دافعت عن حقها برفض الزوج المفروض عليها والهرب لتتزوج من الرجل الذي تحبه واختارته لنفسها. كما شاهدنا نواعم، الفتاة المتمردة التي تمتلك القوة للوقوف بوجه حنفي ومجادلته ومعارضته، ولكنها لا تمتلك القوة الكافية للحصول على حقوقها.
وعلى الرغم من إساءة الفيلم لمجتمع الترانس، إلا أنه كان هناك مشهدين يمكن اعتبارهما يصبان في مصلحة فكرة تقبل الترانس والعبور الجنسي بشكل عام، ولو أنني أعتقد أن الصدفة لعبت دورها عندما كان المؤلف يسعى لطرح فكرة المساواة بين الرجل والمرأة والتوعية بحقوق المرأة مع التأكيد على أن تكون ضمن حدود المقبول. في المشهد الأول، تقول نواعم لفيفي: “على العموم مش عيب الراجل ينقلب ست، ومش عيب الست تنقلب راجل”، جملة مثيرة للإعجاب خصوصاً أنها ظهرت في فيلم مخاطبةً المشاهدين قبل 63 عاماً، وتكمل نواعم: ” لكن العيب إن الراجل يكون أناني ويحرم البنت من التعليم ويخليها تعيش في سجن زي اللي احنا عايشين فيه…. كل واحد في الدنيا لازم يكون له رسالة، ورسالة البنت إنها تتعلم عشان تحضر نفسها لليوم اللي حتكون فيه أم مسؤولة عن تربية أولادها”. أما المشهد الثاني فهو بين والد حنفي/فيفي وزوجته التي تقول له: دلوقتي إبنك بقى بنت”، فيرد عليها: “وماله؟ مش خلقة ربنا؟”. في كلا المشهدين نرى تقبل فكرة التحول من جنس لآخر، وهو أمرٌ رائع ويحسب للبنداري حتى وإن كان الهدف من ذلك الوصول لفكرة عدم وجود فرق بين الرجل والمرأة والتأكيد على حق المرأة بالتعليم.
خلاصة القول، يمكن للكوميديا أن تكون وسيلة لتغيير المجتمع، فمن خلالها يمكننا إيصال رسالة بطريقة محببة وفعالة، وربما تكون وسيلة أكثر نجاعة من الأساليب المتبعة من قبل الناشطين عند مخاطبتهم للجمهور بلغة قد تكون غير مفهومة وتخلو من الأسلوب المطلوب لجذب انتباههم واهتمامهم، ولكن يجب مراعاة الفرق بين زمننا وزبين فترة صدور الفيلم، فلا أعتقد أن ذات القصة بذات السيناريو والأسلوب الكوميدي ستنجح في هذا القرن، لذا يجب مراعاة الفوارق الزمنية في المجتمع منذ ذلك الوقت وحتى الآن.
يجب أن نفرق بين الكوميديا الهادفة وبين الكوميديا الساخرة التي قد تسبب الضيق أو الإهانة لفئة معينة، فليس من حق الكاتب أو المؤدي أن يسعى لإنصاف فئة ما على حساب فئة أخرى، فإذا كنت تريد من الناس تقبل فكرة تؤمن بها، عليك أن تظهر احترامك وتقبلك للأفكار الأخرى تجنباً للوقوع في فخ الازدواجية والتناقض.
أتمنى في نهاية كلماتي أن أرى في المستقبل القريب كوميديا هادفة تسعى للتوعية بحقوق الترانس بشكل خاص ومجتمع الميم بشكل عام، ولكنني أؤمن أنه لكي يكون الطرح منصفاً، يجب أن تأتي المبادرة من داخل مجتمعنا، فمن أجدر منا بطرح قضايانا؟ ومن يملك القدرة أكثر منا على سردها بكل ما فيها من مشاعر ومعاناة وأمل؟